يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 30
حوارات مع جرجيس فتح الله
يجب ان موضح ان الجادرجي ما كان يجد فرقا كبيرا بين (نوري السعيد) وبين (عبد الكريم قاسم) حين ذكر عبارة “منذ السنة الاخيرة ” مشيرا الى تعاون الحزب مع قاسم ضد الشيوعيين , وهم في نظره كما عرضت قوى شعبية ووطنية معارضة للحكم العسكري . وارجو ان تلاحظ انه اشار ايضا الى العام 1946 حين قبل(محمد حدي ) منصب وزارة التموين في حكومة (نوري السعيد) رغم معارضة الجادرجي… والموضوع طويل ومتشعب وحوار كهذا لا يفيه حقه . وما جئت بهذا التفصيل وهو خروج عن اطار السؤال الاصلي الا اثباتا لوجهة نظري في صلابة هذا السياسي الذي يدافع عن المثل الديمقراطية الى اخر نفس وبأعتقاد لا سوم فيه بعصمة احكامه السياسية . ويتجلى هذا في كتاب استقالته من الحزب في ايلول 1961 بعد عودته من العلاج.
واعود لاقتبس من كتابي العراق في عهد قاسم –ج2- قال :” تمخضت الثورة بحكم عسكري ربما امكن تبريره خلال فترة انتقال قصيرة , والغبطة التي قوبلت بها عودة الحياة الحزبية في 1960كانت متأتية من الافتراض بأن هذه الفترة تشارف على نهايتها لكن ومع الاسف الشديد لم تقدم السلطة دليلا جديا على استعدادها لاشاعة الديمقراطية . بالعكس فقد زادت من تدخلها في الشؤون العامة وشددت في اجراءات الطوارئ العسكرية وتمادت في كتب الحريات واضطهاد المواطنين بسبب انتماءاتهم الحزبية ومعتقداتهم ومبادئهم فلم يعد ثمة شك في ان هذه السلطة العسكرية لا تريد الا الحكم الذي اختارته لنفسها وفرضته فرضا … والحزب الوطني الديمقراطي لا يؤمن بالعمل السري وكما برهنت الاحداث والوقائع ان الاحزاب السياسية العلنية لا تستطيع العمل في ظل حكم عسكري .. وكما تعلم وافقت الهيئة الادارية الجديدة على بيان الجادرجي وقررت تعليق نشاط الحزب كليا في سائر انحاء القطر احتجاجا على الاوضاع التي تسود البلاد حاليا” حتى يتوفر المناخ الديمقراطي الصحي والضروري”.
س:ماذا عن صلتكم بالجادرجي . بعد العام 1946. هل كان ذلك اخرها ؟
بل كانت بداية . دأبت على ارسال الصحف التي اصدرها وكان يبادلني بالاهالي .وحرصت على اهدائه ما يصدر لي من تراجم ومؤلفات . وقد تلقيت منه كتاب شكر او اثنين . الا ان ما اقنعني بأني احتل زاوية صغيرة من مختزن ذكرياته هو هذه الحكاية الطريفة التي سأقصها الان .
ربما كان ذلك في العام 1953 او بعده بسنة واحدة او اثنتين . ان جمعتني الصدف بالطيب الذكر الصديق والوطني حمه زياد اغا غفوري الغني عن التعريف في مصيف صلاح الدين كان ذلك بين اصدقاء ومعارف ويغلب على ظني ان السيد جلال الطالباني والمرحوم عوني يوسف كانا من المجالسين وكاد الحديث كله يدور حول الوضع السياسي . وسألني حمه زياد اغا عما اراه من فرق بين حزب الاتحاد الدستوري الذي كان يرأسه (نوري السعيد ) وحزب الامة الاشتراكي الذي يرأسه (صالح جبر) . وكان امامنا على الطاولة فنان من شراب الببسي كولا , والكوكا كولا . فما كان مني (وانا لا املك حضور بديهة )الا واشرت الى القناني المرصوفة قائلا انه اشبه بالفرق بين محتوى هاتين القنينتين وارتؤي في حينه انه تشبيه جيد يستاهل الثناء .
ومرت حقبة طولها اربعة عشرة سنة لا لقى الصديق حمه زياد في ارض الثورة- وقد جئت ملتحقا – ليقص علي قصة مثيرة حول ذلك التشبيه الذي حظر ببالي اثناء ذلك اللقاء .
كان حمه زياد زياد اغا من المختلفين كثيرا الى مجلس الجادرجي ومن اصدقائه . وقد نقل التشبيه له فاستطابه الجادرجي كثيرا وردده على ومجالسيه حتى وصل نبأه الى صاحب جريدة الحوادث-عادل عوني-وقد اشتهرت الجريدة في حينه بجرأتها الانتقادية بباب من ابوابها عنوانه “احاديث المجالس” . او “اقوال المجالس” فكتبت الحكاية وكأنها من اختراع كاك حمه زياد . قال المرحوم حمة اغا :”اسرعت فأتصلت بالجادرجي وقصدي تصحيح الخطأ مذكرا اياه بأني لست صاحب التشبيه واني رويته عن صاحبه جرجيس فتح الله “. فأجابني : “اتراني نسيت؟ كتمت اسمه عمدا فقد اصابه من المتاعب ما لا مزيد عليه . لا يستطيعون إيذاءنا أنت وانا ولكنهم قادرون على إيذائه “.
الجادرجي وعبد الناصر
هذا ما رواه لي كاك حمه زياد في حينه ومنه تأكدت بأن صلتنا باقية . وقبلها جاءت تلك المقابلة الصدفية في اوائل ايلول 1958 بالقاهرة وقد خطر ببالي ان اقضي اياما ثلاثة في العاصمة المصرية للاطلاع على معالمها قبل رحيلي الى اوروبا . وقد جمعنا فندق (شبرد) على غير ميعاد ودون معرفة لي مسبقة بوجوده فيه . على اني علمت قبل رحيلي وانا في بغداد بشخوص الجادرجي الى القاهرة لمقابلة (عبد الناصر ) . وفي الفندق نفسه كان قد حل فيه وقتذاك وفد اقتصادي برئاسة (ناجي طالب) وزير الشؤون الاجتماعية وابراهيم كبة وزير الاقتصاد . في احدى الاساسيات خطر ببالي ان اقوم بجولة في ابهاء الفندق وقادتني قدماي الى قاعة . كان الجادرجي فيها يجلس الى اثنين او ثلاثة من الصحفيين ورأني وانا اهم بالانسحاب فأوما الي بما يفيد ان اجلس , ففعلت . ما مرت هنية حتى فرغ من حديثه وانصرف الصحفيون . نهض الجادرجي وقال : قم بنا نتمشى في الرواق . كان ثمة رواق يطل على حديقة . وما ان خرجنا حتى اسرع يبدد حيرتي من اقتراحه قائلا ان القاعة مشحونة بأجهزة التنصت واستراق السمع وقد تحسست بواحد منها تحت مقعدي ثم سألني : هل ستعود ؟ متى تصدر جريدتك ؟
لم اتوقع منه هذا السؤال قط . وصارحته بأن وجودي هنا هو مجرد وقفة قصيرة وانا في سبيلي الى انكلترا . وقلت ان الجريدة الان بأشراف معتمد حزبه السيد عبد الغني الملاح وانها نشرت تصريحاته الاخيرة حرفيا وبدون حذف . وكتمت عنه متعمدا بأنها تعاني ساعات احتضار . وتبينت فيه سرورا حقيقيا بهذا النبأ وقال حسنا فعلتم وشكرا . قال انه سيعود الى بغداد يوم غد وليس لديه ما يفعله وهؤلاء الصحفيون جاؤوا بدفع من مكتب الاعلام ليسمعوا رأيي بنتيجة مقابلتي للرئيس المصري .(شدد على كلمة مصري . ولم يشأ ان يشير اليه بلقب رئيس ج ع م ) . ترددت قليلا في سؤاله عن النتيجة التي اسفر عنها لقاؤه به . والظاهر انه حزر ما يجول في ذهني عندما قلت مستدرجا : ستكون لندن خاتمة زياراتي . وهناك جهات معينة تهتم بمعرفة حقيقة ما يجري على الساحة العراقية من دعوة الوحدة مع ج ع م . فماذا تشيرون علي به ؟ واظنه حزر ما يقف في طرف لساني من سؤال . فقال دون مقدمات : ” لو اردت انصاف هذا الرجل (يقصد عبد الناصر ) لقلت انه وقع ضحية التقارير المكذوبة التي يرسلها اليه سفيره (امين هويدي ) وملحقه (عبد المجيد فريد) تلك التي تؤدي بي الى اتخاذ مواقف وقرارات خاطئة ذات عواقب سيئة . اظنك تريد معرفة نتيجة مواجهتي الرئيس المصري هذا , انت صحافي ولك حق السبق – لا شيء! لا شيء تبين لي انه قليل معرفة بالعراق وطبيعة تكوينه العرقي ودرجة وعيه السياسي . قال لي ان تسعين بالمائة من العراقيين على الاقل لا يريدون ذلك (واظنه كان يقصد الكورد مع الاقلية المسيحية بهذا) . وان هناك احزابا لا يمكن ان تنتحر بقرار كما حصل في سورية . ثم اني حاولت اثارة اهتمامه بالدعوة الى قيام اتحاد فدرالي من نوع ما . واكدت له ان الحزب الوطني الديمقراطي سيدعم الفكرة ويروج لها . وكان جوابه الرفض البات . كانت هناك تقارير حماسية تصله من جهات عراقية معينة تصور له الوضع والمزاج العام بالشكل الذي تريده . تحدث لي عن المتاعب التي جرتها عليه الوحدة مع سورية وانه لم يقبلها الا بتردد كبير قاصدا بالتظاهر بانه ان قبل بانضمام العراق اليها فسيكون تنازلا او ارغاما . هذا هو كل شيء ”
واسرعت فحولت مجرى الحديث باعادته الى سؤالي الاصلي فقال لا يستحسن التورط بأي تصريح يعطي وجها غير حقيقي عن الوضع في العراق وكرر ما صدر عنه وقرأنا له من تصريحات تلك التي نشرتها مع التصريحات الاولى حول طبيعة النظام . ثم حان وقت العشاء فافترقنا . الا اني اسرعت الى غرفتي لادون ما سمعته عنه . ومما يذكر ان (محمد حسنين هيكل) كان قد كتب عن مقابلة الجادرجي لعبد الناصر في جريدة الاهرام ربما في اوائل العام 1959 , لم اطلع عليها . لكن اعلمني بعض من قراها . انها كتبت بأسلوب تهكمني لا يشرف صاحبها وبالنسبة الي فقد اشرت الى هذه المقابلة بحاشية على الصحيفة 182: الجزء الاول من “العراق في عهد قاسم” المطبوع في 1989. واثبت طرفا من تلك المقابلة .
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012