أدونيس وفادي زادة.. سوريا وسادة السماء والأرض

صقر أبو فخر

قبل اندلاع الحرب السورية في آذار/مارس 2011 دأب الفنان والمصور السوري فادي مصري زادة على تصوير كل متحرك وثابت في سورية. ومن بين المئات من تلك الصور اختار مئة وصورتين لينشرها في كتاب جميل وأنيق حمل عنواناً لافتاً هو «سورية: وسادة واحدة للسماء والأرض» (بيروت: دار الساقي، 2017). والواضح أن عنوان هذا الكتاب خرج من بين أصابع الشاعر السوري الكبير أدونيس الذي قرأ جميع الصور، وكتب لكل واحدة منها فاصلاً شعرياً أخاذاً. والكتاب بمبناه ومعناه يكاد يلخص سورية كلها؛ سورية البحر والجبل والبادية والأنهار والمساجد والكنائس والآثار والصخور الدهرية وسهول القمح العسجدية والثلوج والبيوت والوجوه الباسمة والعيون المرتابة والأجساد المتعبة والأزياء الزاهية وحكواتي مقهى النوفرة في دمشق العتيقة وعازف العود في الشام والدحنون في أفاميا والقرى الطينية في حلب.
في هذا الكتاب تستعيد عيوننا مسجد بني أمية ومعبد جوبيتير ومسرح بصرى (وهو أكبر وأكمل وأجمل مسرح روماني خارج روما) فضلاً عن تدمر ومعبد بعل شمين وقلعة صلاح الدين وقلعة المضيق وقلعة المرقب وجزيرة أرواد ونهر الفرات والبحر في طرطوس ونواعير حماه ودمشق الساحرة في ليلها ونهارها، وحلب، وقطار عين الفيجة والغوطة وأحجار عمريت وأعمدة قنوات ونقوشها الرومانية البديعة، وجبال القلمون والشارع المستقيم في دمشق حيث نزلت البشارة على القديس بولس، وصيدنايا ودير الزور والقنيطرة والسويداء.
يهدي أدونيس ذلك الكتاب إلى سورية بقوله: «سلاماً أيتها الأرض – الأم». ها هو إذاً يرمي سلاماً على أمه الأرض، فمن يخدش وجه أمه غير الإرهابيين ذوي الأقدام الثقيلة؟ ثم ينعطف ليقول في المقدمة: «لسورية في الفن دور يعلّمنا». والفن بمعناه الشامل يغمر الكتاب كله من صورة الغلاف حتى آخر صورة فيه بعدما جمع الشعر والصورة معاً: أدونيس وفادي مصري زادة. والصورة هنا لا تنقل الواقع كما هو وتكتفي بذلك فحسب، بل إنها تخلق إحساساً بالمكان الذي يكاد أن يغيب في أهوال الدمار والنار والحرب الهمجية.
كل صورة في الكتاب تتحول، علي يدي أدونيس، من السكون إلى الغليان. وقد جعلت نصوص أدونيس كل صورة تنطق بما هو أبعد مما تقوله بصرياً؛ فقد قرأها أدونيس لا كما تريد الصورة المسجونة في نطاقها أن تقول، أو كما يتعذر عليها أن تقول، بل جعلها تولد من جديد، وتتحول من مشهد إلى «صرخة جرح وردم غياب» بحسب تعبير خالدة سعيد في كتابها المدهش «جرح المعنى» (بيروت: دار الساقي، 2018).
الصور في هذا الكتاب تُصوِّر ما هو موجود في سورية بحساسية لافتة، وبرؤية جمالية واضحة، لكنها، مع ذلك، تبقى ساكنة. إلا أنها مع فواصل أدونيس الشعرية تصبح مولودة في بُعد سديمي، أو كأنها تومض بأفق لا نهائي، فالكلمة والصورة تمتزجان في هذا الكتاب لتصبحا صوتاً، بل موسيقى راعشة.
* * *
هو ذا أدونيس؛ ساحر الكلمات الذي يقيم في المطر، وملك الغبار الذي يجول في ملكوت الريح. وحين تحبل السماء يمتزج الغبار بالمطر فيتحولان طيناً. ومن الطين صُنعت الكائنات الأولى، والرُقَم التاريخية والمنازل القديمة والنقوش الباهرة التي ما برحت تجسد حتى اليوم، وعلى الرغم من المحو والاندثار، عبقرية الحضارة السورية القديمة في تجلياتها المتعاقبة منذ الماضي السومري والأشوري والكلداني حتى الآرامي – السرياني ثم العربي. وهذا الكتاب يلخص عبقرية الطين والحجر والماء والزرع والبشر.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة