الثقافة الرفيعة

يتداولون مصطلحاًت قديمة مثل الثقافة الرفيعة، التي تلهم المجتمع الفنون الجميلة والعيش الرائق والثقافة الهابطة التي تهوي به نحو البربرية والتخلف. ويضربون على ذلك مثلاً بروايات شكسبير من جانب، وروايات الجنس التي كتبها أدباء معروفون من جانب آخر. كما يستدلون عليها بمنظمات حقوق الإنسان من جهة ومافيات المخدرات من جهة ثانية وهكذا.
مثل هذه المقارنة لا يختلف عليها اثنان في وقت من الأوقات، ولا يمكن أن تكون محل لجاج وخصام في عصر من العصور. فهناك على الدوام أداء جيد، وأداء ردئ. والثقافة ليست ظاهرة منفصلة عن الواقع، أو متعالية عليه، بل هي جزء لا يتجزأ منه.
بيد أن علينا أن ننتبه إلى ما يشوب مثل هذه المصطلحات من نفاق. فالثقافة الرفيعة دائماً ما تعني من وجهة نظر النخبة الثقافة الغربية. وهي بسبب ذلك تميل إلى استنساخها والتعريف بها على حساب الثقافات الوطنية أو المحلية.
وميزة أي ثقافة من هذا النوع أنها تمتلك القدرة على الانتشار خلف الحدود. وتحظى برضا الناس في ما وراء البحار. وتجد على الدوام من يتحمس لها، ويقوم بالترويج لها في كل مكان. فالانتقال هو، بحسب هذا المفهوم، ميزة خاصة بالثقافات الرفيعة، دون غيرها من الثقافات.
إلا أن الواقع يشير إلى مفارقة طريفة. وهي أن الانتشار ليس سمة بشرية خالصة، فهناك من الحيوان من يقوم بهذه المهمة أيضاً. مثل محاكاة فراخ الطيور لتغريد الأبوين، وتعلم صغار الفئران العزوف عن الطعام الذي تعافه الأمهات، وقيام النمل بتتبع مواضع الطعام عن طريق الآثار التي يتركها الآباء، وغير ذلك من الأمور!
ومعنى ذلك أن الانتقال الثقافي ليس مقصوراً على الإنسان وحده، وليس حكراً على الثقافة الرفيعة وحدها. بل إن الثقافة لم تعد وقفاً على الإنسان دون بقية الكائنات. حتى أن الأخيرة – أي الكائنات الحية – أنتجت ثقافة عظيمة هي حفظ النوع الحيواني من الانقراض!
لا بد أننا نعلم الثقافة الغربية هي التي نشرت لأول مرة مفاهيم في غاية الدناءة، مثل الاستعمار والاستغلال والاحتكار والعنصرية.
وهي التي بشرت بظواهر سيئة مثل حلف الناتو والبنك الدولي والقنبلة الذرية.
وهي التي روجت لمجتمع الشواذ وزواج المثليين والإجهاض!
وبسبب ذلك فإن من الخطأ عد الثقافة الغربية، مجردة من أي صفة أخرى، ثقافة رفيعة. فالغرب يمتلك كذلك ثقافة هابطة تسببت في قتل الملايين من السكان في مناطق مختلفة من العالم، ونهب ثرواتهم الطبيعية والبشرية.
ومن الخطأ كذلك الاعتقاد أن ثقافة الشرق أدنى مستوى، لأنها أنتجت الأديان والروحانيات والتصوف والأبجديات. وتمكنت من نقلها إلى جهات العالم الأربع، دون عقبات كثيرة، ودون أي منافس حقيقي.
محمد زكي إبراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة