عمرو حمزاوي
تمكنت الحكومات السلطوية من تزييف وعي الكثير من الأمم والشعوب وصرفها عن طلب الديمقراطية.
وتتعرض الفكرة الديمقراطية لأزمة عاصفة ترتبط بتراجع بعض حكومات الغرب الأميركي والأوروبي عن الالتزام بحقوق وحريات المواطنين وتنكرها لمبادئ أساسية كالفصل بين السلطات واستقلال المؤسسة القضائية ونزاهة العمليات الانتخابية.
فمن جهة أولى، تتواصل انتكاسات سيادة القانون بسبب نزوع حكومات منتخبة للتغول أمنيا واستخباراتيا على المواطن وإخضاعه جهرا أو سرا لصنوف مختلفة من المراقبة الدائمة وتمرير قوانين استثنائية لإضفاء شرعية إجرائية على تشويه هوية المواطن باختزال وجوده إلى «مكمن خطر» أو «مصدر تهديد» محتمل ينبغي بالضرورة إخضاعه للمراقبة وبالتبعية ضبطه والسيطرة عليه.
من جهة ثانية، تفرغ هيمنة النخب الحزبية والسياسية والإدارية ومعها المصالح الاقتصادية والمالية وجماعات ضغطها على المؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة هذه من الجوهر الديمقراطي:
١) بقصرها ممارسة المواطن الناخب لحق الاختيار الحر لممثليه التشريعيين والتنفيذيين على مجموعات محدودة العدد ودائمة التدوير عليه أن يختار من بينها. ٢) باستبعاد قطاعات شعبية واسعة من عمليات صناعة القرار العام والسياسات العامة ومن ثم الإلغاء شبه الكامل لإمكانياتهم الفعلية لجهة التأثير في تحديد صالح المواطن والمجتمع والدولة الذي يترك لهيمنة النخب والمصالح الكبرى.
٣) بفصل المؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة عن المواطنات والمواطنين الذين تتراجع بفداحة قدرتهم على الإدراك الواعي «لما يحدث» في أروقة البرلمانات والحكومات وتصدر لهم باستمرار انطباعات زائفة بشأن «تعقد حقائق وتشابك تفاصيل» دولاب العمل التشريعي والتنفيذي و«استعصائها» على فهم العوام الذين يطلب منهم بالتبعية الاكتفاء بالمشاركة في مواسم الانتخابات المتتالية والتعبير عن رضاهم أو رفضهم للقرارات والسياسات العامة من خلال بطاقات التصويت.
٤) كما ترتب هيمنة النخب والمصالح الكبرى على المؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة والاستعلاء الصارخ في التعاطي مع المواطن عزوف الناس عن المشاركة في الانتخابات بنسب إقبال كبيرة وهجرتهم لمراكز الاقتراع وبطاقات التصويت مما يقضى على حلقة الوصل الأخيرة بينهم وبين الديمقراطية النيابية.
من جهة ثالثة، تتسع الفجوات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية بين الأغنياء وميسوري الحال والطبقات الوسطى وبين الفقراء ومحدودي الدخل والضعفاء من المهاجرين غير الشرعيين في الغرب بسبب انقلاب العدد الأكبر من حكومات الغرب الأميركي والأوروبي على سياسات الرفاه وتخليها عن الكثير من مكونات وإجراءات العدالة الاجتماعية في سياق الصعود السريع إما للأحزاب النيوليبرالية أو للتيارات الشعبوية (تجسد إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب النيوليبرالية والشعبوية معا). مثل هذه الفجوات تبلور حقائق مؤلمة في الغرب الأميركي والأوروبي بها من التمييز ضد قطاعات شعبية واسعة ومن تهميش بيئات سكانية كبيرة ما يسقط مبادئ تكافؤ الفرص والتوازن المجتمعي الضامن للكرامة الإنسانية وللعدالة الاجتماعية في هوة سحيقة، ويفقد تأسيسا على ذلك قيم العدل والحق والحرية والمساواة مصداقيتها الأخلاقية والإنسانية وفعاليتها المجتمعية والسياسية.
من جهة رابعة، أضحت النخب الحزبية والسياسية ومعها المصالح الاقتصادية والمالية النافذة في الغرب، على الرغم من توفر ضمانات قانونية وإجرائية لصون حرية التعبير عن الرأي ولابتعاد المؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة عن العبث بها، تحكم قبضتها على الفضاء العام عبر حقائق الثروة والنفوذ والملكية الخاصة لوسائل الإعلام وتوظفها لتجاوز القيم الديمقراطية تارة بنيوليبرالية تلغى وجود الفقراء ومحدودي الدخل وتارة أخرى بشعبوية تختلط بالعنصرية وكراهية الأجانب واللاجئين.
أما بعيدا عن الغرب الأميركي والأوروبي، فقد تمكنت الحكومات السلطوية من تزييف وعي الكثير من الأمم والشعوب وصرفها عن طلب الديمقراطية إما بصياغة أفكار بديلة تناوئ الفكرة الديمقراطية وتتمتع بجاذبية وطنية وعالمية أو بالترويج لاستحالة تحقق الديمقراطية في واقع أخلاقي وإنساني ومجتمعي وسياسي غير متماسك. وينطبق ذلك على مجمل بلاد العرب التي إما تعانى من انهيار مؤسسات الدول الوطنية، أو تعمل أزمات التخلف والتطرف والإرهاب معاول الهدم في سيادتها واستقرارها وفاعلية أجهزتها، أو تتكالب الطائفيات والهويات العرقية والدينية والمذهبية والقبلية وغيرها من الهويات الجزئية على شعوبها لتنزع عنهم السلم الأهلي ولتجرد رباط المواطنة من المضمون، أو تتهاوى بها ضمانات السلم والأمن وتتصاعد معدلات أعمال العنف والصراعات المسلحة والحروب الأهلية وتوظف بها عصابات الإرهاب الفراغ الناشئ لإطلاق المزيد من الدوائر الشيطانية لهدم الدول وطرح ثنائية الانتحار «إما الاستبداد والسلطوية وإما الإرهاب والقتل» كاختيار وحيد على أمم وشعوب منطقتنا.
* ينشر هذا المقال بالاتفاق مع مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي ٢٠١٤
لقراءة النص الأصلي٬ تبع الرابط التالي: http://carnegieendowment.org/sada