د. سليم كاطع علي
إن بناء مؤسسات الدولة السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية، وتنوع وظائفها في شتى القطاعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، وتطور العلاقات بين الدول؛ عاملاً مهماً في ظهور الدبلوماسية بمفهومها ومعناها مثل فن التفاوض أولاً، وأداة للسياسة الخارجية ثانياً، وبصورة جعلت منها فناً للتواصل والتفاعل محلياً وإقليمياً ودولياً، مما كان له الأثر الأول في تسوية المشكلات والخلافات، وحل الأزمات وإحلال الوفاق وإقامة التوازن بين المصالح المتعارضة بين الدول.
فالدبلوماسية، كونها العملية التي يتم خلالها أتصال حكومة دولة معينة بأجهزة صنع القرار في حكومة دولة أخرى اتصالاً مباشراً، بما يضمن للدولة من خلالها موافقة الأطراف الأخرى على خططها وأهدافها، جعل لها الأولوية في إنجاح السياسة الخارجية لأية دولة، وكان لابد لنجاحها من توافر مهارات وإستراتيجيات وتكتيكات تسهم في تحقيق الأهداف المرسومة بدقة متناهية.
ويعد التفاوض حجر الزاوية لأتصال الدولة مع غيرها من الدول والخطوة الأولى لذلك، فالمفاوضات هي الخيار الأسلم الذي يحقق المصالح ويفضي إلى التسويات كونه الأداة الفاعلة والغاية التي تنشدها الدبلوماسية في ترتيبها للعلاقات الدولية إنطلاقاً من أن الدبلوماسية هي الأداة السلمية في تبادل العلاقات بين الدول والتي تهدف لإزالة أسباب الخلاف والعداء بينهما.
لقد ارتكزت سياسة العراق الخارجية ما بعد عام 2003 على جعل العراق عنصرا إيجابياً بالمنطقة وأعتماد مبدأ حل جميع المشكلات والأزمات عبر التفاوض والتحاور، ونبذ لغة العنف وبناء شراكة حقيقية مع دول العالم والمنطقة، والسعي لبناء بلد متطور يهدف إلى خدمة شعبه والنهوض بجميع مسؤولياته، الأمر الذي جعل العراق أمام مهمة شاقة في التوفيق بين المصالح المتعارضة والمتقاطعة لدول المنطقة عبر استعمال الدبلوماسية؛ لأنها فن التوفيق بين المصالح المتعارضة ووجهات النظر، وبما يحقق المصالح العليا للعراق.
ومن أجل إنجاح الدبلوماسية العراقية في تحقيق أهدافها لابد أن تكون السياسة الخارجية للدولة واضحة المعالم والأهداف، خالية من التناقضات السياسية وتحدد خططها المستقبلية وتنفذ خططها بعيدة المدى، لأن التناقض يؤدي لأرباك سياسة الدولة ويحبط الثقة المتبادلة بين العراق وغيره من الدول، ويسير بالعلاقات مساراً بعيداً عن الإستقرار والمصداقية الدولية. فضلاً عن ذلك من الضروري الموازنة بين المصالح الذاتية للدولة وممكنات العمل في ظل المرحلة الدولية القائمة ومصالح أطراف الإقليم والمجتمع الدولي، التي تعد من أهم سمات السياسة الخارجية الناجحة، فلابد للدولة أن تسير على وفق خط مستقيم في سياستها الخارجية والتي تهدف من ورائها مراعاة مصالح وأهداف الدول عامة والحفاظ على السلام العالمي وإستقرار النظام الدولي.
لذا لابد للحكومة العراقية بعد إدراكها للوضع العراقي الحالي وحقائق النظام الدولي الحالية الإستفادة من إستراتيجيات وتكتيكات التفاوض لتحسين أداء السياسة الخارجية العراقية وصولاً لتحقيق أهدافها والتخلص من جميع الضغوطات الإقليمية والدولية. فالإستراتيجية هي الوسيلة التي تستخدمها الدولة وصولاً لتحقيق الأهداف، ومن ثم فأن القول أن الإستراتيجية هي الهدف يعد خطأ كبيرا، لأن الإستراتيجية ترتبط بالوسائل في حين أن الأهداف ترتبط بالغايات والوسائل ومولداً قرارات خاطئة.
وهنا يمكن تحديد مستويات التفاوض التي يجب على العراق الأعتماد عليها في علاقاته مع الدول سواء إقليمياً أو دولياً وبما يحقق ضمان مصالحه الوطنية وحماية أمنه القومي على مستويين:
المستوى الأول:
يشمل فتح قنوات التفاوض مع الدول الرافضة للواقع العراقي وغير المتعاونة من خلال أعتماد إستراتيجية ضبط النفس، وعدم الإندفاع، والإمتناع عن استعمال الإعلام الموجه.
المستوى الثاني:
يتمثل في تعزيز العلاقات مع الدول التي تتعاون مع العراق عبر تشجيع التعاون بين أطراف التفاوض أتجاهاً وسلوكاً، ولكن ليس بالضرورة تطبيقها بنفس الإتجاه والأسلوب على شتى المواقف والموضوعات، ومن الأساليب المتبعة في هذه الإستراتيجية أسلوب التدرج المتصاعد في العلاقات وتقديم التنازلات المتبادلة وكسب الثقة والإحترام المتبادل بما يحقق المنافع المشتركة لجميع الأطراف.
ولا شك فأن نجاح هذه الإستراتيجيات والتكتيكات التفاوضية من أجل دعم الدبلوماسية العراقية يعتمد على مدى إدراك صانع القرار السياسي الخارجي العراقي لطبيعة النظام الدولي والإقليمي والتفاعلات التي تجري فيهما، إلى جانب تعزيز فاعلية الدولة على مستوى الإدارة والتنظيم. إذ كلما كان إعداد الدبلوماسي للقيام بوظيفة جيداً؛ كلما كان ذلك عامل من عوامل إنجاح سياسة الدولة الخارجية وتحقيق فرض السلام والرفاهية في العالم. مع الإبتعاد عن أي خطوة دبلوماسية دون دراسة أو تحليل للعواقب، لأن الدبلوماسية المنفعلة والبعيدة عن التخطيط تؤدي لخسارة مادية ومعنوية للدولة. فضلاً عن ضرورة أبتعاد صانع القرار السياسي الخارجي عن التعصب السياسي، إذ أكدت التجارب أن تصلب الدولة وتعصبها في نشر طروحاتها السياسية أو فرضها بالقوة على الدول الأخرى لا تؤدي في الغالب إلى تفاهم ودي أو إستقرار بين الدول، بل على العكس ستؤدي إلى مزيد من التوتر وعدم إستقرار العلاقات بين الدول.
وفي ضوء ما تقدم، لابد من تطوير وتوسيع تلك الخطوات والإنتقال إلى فضاءات أوسع وأشمل لأن العراق بحاجة ماسة لتنشيط دبلوماسية وتطوير علاقاته مع الدول الأخرى، على مستوى إقليمي ودولي أستناداً إلى مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية ورفض أي تأثير على قرارات العراق السياسية حاضراً وفي المستقبل. وهذا يتطلب بالضرورة بناء وزارة الخارجية العراقية على أسس تحقق أهداف السياسة الخارجية العراقية وأن يكون الولاء للوطن هو الدرع الحصين الذي يجب أن يتذكره الدبلوماسي العراقي بعيداً عن أشكال المحاصصة والولاءات الضيقة.
كما أن الحفاظ على قنوات الإتصال مفتوحة مع بقية الدول يجب أن تكون له الأولوية في عمل الدبلوماسية العراقية في المستقبل، إنطلاقاً من أن قنوات الإتصال بصورها المتعددة المباشرة وغير المباشرة، هي ضرورية سواء في الأوضاع الدولية الأعتيادية أو الأزمات العنيفة، إذ لابد من تبادل المعلومات ووجهات النظر بين أطراف التفاوض، إلى جانب معالجة العوارض التي تطرأ على العمل التفاوضي بشكل سريع وحاسم، لكي تستطيع الدبلوماسية من السير في طريقها، والذي يؤدي في النهاية إلى الإتفاق أو الخلاف، على أن لا ينظر إلى عدم الإتفاق بأنه نهاية العمل الدبلوماسي، إذ لابد من الإستمرار في التفاوض طالما أن البديل هو الحرب.
واذا ما أردنا للدبلوماسية العراقية أن تحقق نجاحات في إستراتيجيتها التفاوضية فعليها أن تنظر إلى أي مفاوضات كمشروع تعاوني، ذلك أن إقبال أطراف التفاوض على التفاوض بروح تعاونية، من الممكن أن يسهل إقناعها بالسعي إلى بلوغ أهداف يمكن تقسيمها بالتساوي، وبذلك تكون إنجازاً تعاونياً في التفاوض لاسيما إذا أحس طرفا التفاوض أنهما على قدم المساواة، ولم ينصب التفاوض على الماضي بل التزام بالمستقبل، وبذلك يتيح لأطراف التفاوض إنقاذ ومعالجة الكثير من المشكلات والموضوعات المعلقة، وهو ماتحتاجه الدبلوماسية العراقية في هذه المرحلة تحديداً.
وفي ضوء ما تقدم، فأن إستقرار الوضع الأمني داخل العراق بعد القضاء على تنظيم داعش الإرهابي يتطلب بطبيعة الحال سياسة خارجية هادئة قائمة على مبدأ التمسك بالخيار الديمقراطي لإرساء وبناء العراق الموحد، ودعوة جميع أبناء الشعب للمشاركة بدور فاعل في بناء وإدارة العراق وبالطريقة التي تقود إلى الإنفتاح الدبلوماسي عبر الإستناد إلى الطرق الإبداعية لتغير الإستراتيجيات والتكتيكات الخاصة بالعملية الدبلوماسية، وبصورة تمكن من تجاوز الفشل وتحقيق نجاحات جديدة في خدمة العراق وتسجيل عودته فاعلاً مهماً في التفاعلات الدولية والإقليمية عبر إدامة علاقات حسن الجوار والمصالح المشتركة بين مختلف الدول. وهنا ينبغي على صانع القرار العراقي النأي بالنفس عن مختلف المحاور والتكتلات الجارية، أو التي ربما ستتشكل مستقبلاً، وضرورة إلتزام سياسة الحياد الإيجابي عبر المساهمة الفاعلة في إيجاد الحلول وتقريب وجهات النظر بين الأطراف ذات المصالح المتناقضة، وإظهار العراق كفاعل مهم للبناء والتعاون وبما ينعكس إيجابياً على الوضع العراقي سواء داخلياً ام خارجياً.
* مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية