علوان السلمان
ـ (القصة القصيرة جدا نهاية لرواية) محمد خضير
…لقد شهد النص السردي تحولات بنيوية مقترنة والتحولات الحضارية.. كونه نص متمرد على الثبات والنوع انطلاقا من الحكائية وانتهاء بالقص القصير جدا الذي تعود نشأته الى بداية النصف الثاني من القرن العشرين..اذ حركة التجريب لمغايرة المألوف والسعي لابتكار آليات حديثة لاشتغالاته.. فقدمت نصا منطلقا من ذروة الحدث وتوهجه يحققه وعي المنتج(القاص).. فيتجاوز الواقع وتقلباته صوب مطلقه..فكانت نوعا سرديا يتفق وروح العصر ومتطلباته من سرعة وتركيز وتكثيف في الشخصيات والاحداث والزمان والمكان وايحاء وترميز باعتماد الكم الكلمي الضروري لبناء النص..اذ انها تدور حول حدث ينمو متصاعدا بسرعة في اتجاه واحد ضمن حبكة مركزة صوب النهاية متجاوزا للذروة البنائية لانها تتمحور في نهايتها حيث الضربة الاسلوبية الادهاشية المفاجئة ولحظة التنوير الذهني والاضافة الخلاقة الناتجة من توفر الفكرة في تتابع جمالي مطرد وهي حاملة للشعرية التي تعكس الحالة الشعورية المنبثقة من دواخل النص وروحه…
لقد برز القص القصير جدا بعدد محدود من الكتاب آنذاك ضمن مجاميع قصصية كما فعل احمد خلف في مجموعته القصصية(نزهة في شوارع مهجورة)..اذ ضمنها خمس قصص قصيرة جدا..ونشرت بثينة الناصري في مجموعتها(حدوة حصان)قصة اسمتها(قصة قصيرة جدا) ونشر حبيب الراوي خمس قصص قصيرة جدا ضمن مجموعته(القطار الليلي) …ثم توالى النتاج القصصي القصير جدا ضمنا واستقلالا كان آخره المجموعة القصصية(روشيرو)..(البقعة الملتوية في جغرافيا المتاهات) على حد تعبير منتجها القاص حسين رشيد بقصصها القصيرة جدا التي توزعت على اربعة محاور معنونة(تعال لاريك) و(تمعن بذلك)و(تحدث معك) ثلاثيات و(تخيل ذلك)مشاهد قصصية.. وقدانتظمت تحت كل عنوان مجموعة من العنوانات التي تفرد كل منها بفضاء سردي قائم بذاته كنتيجة حتمية للعولمة والعصر الذي وسم بعصر السرعة وذلك بميلها نحو التكثيف والاختزال على مستويين: اولهما مستوى الجملة..وثانيهما على المستوى المقطعي وقصر الجملة السردية..فكانت نصوصها موحية باضمارها..محتشدة الدلالة بحذفها..والتي شكلت(اول اغنية عشق رددتها ذاكرة) المنتج واسهمت دار شهريار/دار الرافدين في نشرها وانتشارها/2017..لاشتغالها على ثيمات متفاوتة اجتماعيا وسياسيا وثقافيا ونفسيا..باعتماد معاناة الذات والذات الجمعي الآخر التي شكلت بؤرتها لتعري المسكوت عنه..مع عناية بالاستهلال الذي يشكل جوهر الحكاية مع ضربة مباغتة مستفزة لذاكرة المستهلك(المتلقي) خاتمة النص..
(في احدى الجمع شاكسوه حين ابدلوا حذاءه الجديد والمستورد بنعل قديم..اخذ الامر بنوع من اللامبالاة..وفي جمعة اخرى عادوا الكرة وابدلوا حذاءه بنعل اكثر تهرؤا مصحوبا بورقة صغيرة كتب عليها(هذا من فضل منطقتي)..وسط هذا وذاك وصوت من هنا وصوت من هناك تمت تهدئة الموقف وشيخ الجامع يصر على حضوره لاداء الصلاة رغم كل شيء..في جمعة اخرى ابقى مرافقه يراقب من يريد سرقة الحذاء وفي اللحظات الاخيرة من الخطبة والصلاة جاء احدهم وقال للمرافق ان السيد النائب يريدك.. وحين ذهب وعلم انه لم يطلبه عاد الى مكانه لكنه لم يجد حذاء السيد النائب بل وجد فردة نعل وورقة مكتوب عليها(نعتذر لوجود فردة واحدة فقط) في هذه المرة سخط النائب وبانت ملامح العصبية على محياه وقرر في نفسه عدم الصلاة في الجامع مرة اخرى لان الامر يبدو متعمدا..لكنه عاد بعد جمعتين او ثلاث لمناسبة الجمعة الاولى من شهر رمضان وقبل ان يدخل الى الجامع اوصى مرافقه والسائق بمراقبة من يفعل ذلك.. يومها تحدث بعد صلاة الجمعة عن نعمة الله وكيف منّ عليه بهذه النعمة الكبيرة..انتهت الخطبة وانتهت الصلاة وخطواته نحو باب الخروج حذرة خوفا من تكرار الامر..لكنه ابتسم حين وجد الحذاء في مكانه..خرج من الجامع وهو يصافح المصلين ويقول(هذا ايضا من فضل ربي انه اوقف هؤلاء السراق) سار هو والسائق ومرافقه باتجاه السيارة..وقف وهو مذهول مما رآه حيث وجد السيارة من غير اطارات وهي واقفة على اربع طابوقات كبيرة وورقة معلقة على ماسحة الزجاج الامامية قرأ فيها(هذا من فضل ربي) ص89 ـ 90..
فالنص يصور الذات وصراعها مع كينونتها والواقع من خلال ايصال رسائل مشفرة بالانتقادات الكاريكاتورية الساخرة الطافحة بالواقعية الدرامية.. المعبرة عن مجتمع يضج بالتناقضات..وتدين سياسة الاستلاب وتزييف القيم الانسانية بلغة متوهجة والفاظ ايحائية بعيدة عن التقعر..مع اعتماد التكثيف والاختزال والاقتصاد في اللغة مع ضربة اسلوبية مفاجئة..اضافة الى اتسامه بمجموعة من الخاصيات كالخاصية الايحائية وخاصية الادهاش الناتجة من الاضمار والحذف والتخييل والمفارقة..فضلا عن مميزاته الجمالية المتمثلة في التركيب اللغوي واعتماد محمولات الجملة الفعلية للتدليل على الحركية والتوتر الدرامي واثراء وتسريع الايقاع السردي بشكل دينامي حيوي..اضافة الى مميزاته الدلالية الناتجة من المفارقة والانزياح المنطقي وانقلاب القيم بموازينها..
(بعد ان لوح بيده توقفت سيارة الكيا..صعد رجل في العقد الخامس يرتدي السواد..علامات الحزن بادية عليه..ليكمل حزنه بالسيارة حيث كان المذياع يبث محاضرة دينية عن عاشوراء..بعد ما يقرب من مائة متر..شاب في بداية العقد الثاني يرتدي جينزا ضيقا وتي شيرتا ملونا بالاحمر..وتسريحة الشعر حديثة..لوح بيده..توقف السائق ليصعد..ما ان حط قدمه في السيارة حتى رن هاتفه النقال واذا صوت فيروز(سألتك حبيبي لوين رايحين)..رد بهدوء مع ضحكة تشي ان الطرف الاخر حبيبته..الرجل الخمسيني ينادى على الشاب الذي صعد في مقدمة السيارة بجانب السائق واصل مولانا..سيد.. مولانا.. واصل..انتبه الشاب..التفت وابتسامة تعلو محياه ملوحا باصابع يده الاربعة شكرا..وهو يهمس ويبتسم هاتفيا..) ص109..
فالقاص يسجل الواقع بصورة المتخيل ساردا حكاياته بآليات ترقى في نتاجه الى مصاف هواجس مسكونة بما يدور حولها..مع اختزال الحدث وانزياح الواقع وكل ما يتسق مع ايقاع الحياة.. ليقدم نصا متجاوزاالكتابة التقريرية مستعينا عنها بلغة التشخيص الاستعاري والمجاز المؤنسن والانزياح البلاغي وخطاب الترميز التجريدي بتوظيف الالفاظ العلاماتية والاشارية السيميائية والدوال الموحية المكتظة بالدلالات..فضلا عن توظيفه تقانات فنية كالتضمين والتلميح ولغة الجسد الاشارية الحافلة بالمعاني الرمزية التي تتوارى خلف الحضور المادي وفق ميكانزيمات لغوية تبث الروح في ثنايا النص المعبأ بالدهشة.. المركز على المعاني باعتماد الرمز الذي يقبل التأويل ويسهم في نبش الخزانة الفكرية للمستهلك(القاريء)..كونه نص دائم التخلق لقابليته على التحرك في الزمكانية بسبب طاقته الدينامية الفاعلة..
(ذات ليلة مقمرة وبعد نهاية حرب الثماني سنين العجاف حيث مازال الناس يستذكرون موتاهم في ذكراهم السنوية..وبعد نهاية احداهن وفي طريق عودتي الى البيت صادف ان جمعني الطريق ونوال..عاكستها على طريقة المحلة..ظلت صامتة..عاودت المعاكسة..ردت ببعض العنف معجون بابتسامة ماكرة..تبادلنا اطراف حديث مجامل..وحدث شبه اتفاق على لقاء..وجرى ذلك والتقينا ولهونا ببعضنا بشتى الطرق والطرائق..لم يكن المكان بعيدا عن المحلة..حيث عدنا بعد انتصاف النهار..دخل كل منا في زقاقه..كان بيتهم في اول الزقاق وبيتنا في وسط الزقاق الذي يليه..وعلى بعد خطوات من دارنا دوى صوت اطلاقة نارية واحدة..دخلت البيت..دقائق وعلا صياح..خرج الجميع مستفسرا..هرعوا الى مصدره وانا معهم..وقف الكل مذهولا امام بشاعة المنظر..الابن يقف بجوار جده..وخالته تنوح وهي تجمع اشلاء اختها الممزقة..ليسرق نظري وشم كبير كنت قد عملته على زندها الايسر صباح اليوم) ص146 ـ ص147..
فالقاص يركز على العناصر الشعورية والنفسية الخالقة لجدلية(الذات والموضوع) ليخلق نص الرؤيا في اطاره البنيوي مع تجاوز المألوف والانطلاق في فضاء الطبيعة وصولا الى اللحظة المولدة للوظيفة الجمالية المتمثلة في الادهاشية المفاجئة..ليكون خطابه محققا لوظيفته الانفعالية باستخدام الطاقات الحسية والصوتية والعقلية عبر بناء يفجر اللغة باستثمار خصائصها بوصفها مادة بنائية لصور ايحائية تتكىء على الايجاز واثارة الخيال بتوظيف المجاز المعبر عن لحظة التوهج..
مما سبق نستشف ان القاص انتج نصوصا تميزت بمعاييرها الكمية والكيفية والدلالية.. ومقصدية تمثلت جل مقومات القص القصير جدا واستجمعت كل مكونات الفعل السردي وخصائصه الادهاشية والفنية والجمالية..