جيمس جيفري
[في الرابع عشر من نيسان/أبريل، نفذت القوات الاميركية والبريطانية والفرنسية ضربات جوية ضد سوريا رداً على هجوم بالغاز السام شنه النظام السوري في مدينة دوما في السابع من نيسان/أبريل]، أسفر عن مقتل عشرات الأشخاص. ويمكن أن يُظهر هذا التحرّك قيمة التحوّل من حملة تقودها القوات البرية الاميركية إلى أخرى ترتكز في الغالب على العمليات الجوية التي من شأنها أن تحد من وجود تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي قُضي عليه بالفعل، لكنها تتجنب المخاطر وتكاليف بناء الدولة الوهمية التي يسعى إليها كبار المسؤولين المقربين من الرئيس الاميركي ترامب.وفي الأسبوع الماضي، دعا ترامب إلى سحب القوّات الأميركية على الفور من سوريا. وعلى الرغم من أن البيت الأبيض سرعان ما عدل عن هذا القرار، إلاّ أنه قوبل بعاصفة من الاحتجاجات العلنية وفي الجلسات المغلقة، لا سيما من قبل كبار مسؤولي الأمن القومي الذين كانوا يضغطون من أجل شن حملة عسكرية قد تستغرق المزيد من الشهور قبل أن تنتهي، لتليها مرحلة إعادة الإعمار.
ويُشكّل الاعتماد بشكل أساسي على القوة الجوية فوق سوريا إحدى الحلول لمواجهة جوهر مخاوف ترامب، وإعادة تركيز المهمة نحو مواجهة إيران، وإخراج الجيش الأميركي من مغامرة بناء دولة ميؤوس منها. إذ تستطيع الولايات المتحدة أن تسحب معظم قواتها البرية في الشمال الشرقي من البلاد خلال فترة تتراوح بين 9-12 شهراً، معتمدة على شريكها المحلي – «قوات سوريا الديمقراطية» التي يبلغ قوامها 60 ألف مقاتل – وعلى القوة الجوية الاميركية للدفاع عن نفسها ضد بقايا تنظيم «الدولة الإسلامية» وهجمات نظام الأسد كما حصل في شباط/فبراير.
لدى الولايات المتحدة مصالح استراتيجية في سوريا، أوّلها مواجهة التهديد لحلفائها إسرائيل وتركيا والأردن ودول الخليج من قبل إيران، ونظام الأسد الذي مكّنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. إلّا أنّ القوات العسكرية الاميركية البالغ عددها 2000 جندي في شمال شرق سوريا تعتبر هامشية لتلك المصالح حتى أنها تتعارض معها إلى حد ما. فمهمة هذه القوات التي تركزت على مقاومة تنظيم «الدولة الإسلامية» قد تطورت لتصبح آلة نشر دائمة مماثلة للوضع القائم في أفغانستان ولكن مع أهداف أقل [شِدَّة]. ووفقاً لحلفاء اميركا الإقليميين، لم تعُد الرهانات الاستراتيجية تتمحور حول تنظيم «الدولة الإسلامية»، إنما حول إيران، وروسيا، وحول إمكانية شنّ حرب كبرى أو إرساء السلام في بلاد الشام.
ولفهم المشكلات في النهج الذي تدعمه «القيادة المركزية» الاميركية، أي القيادة العسكرية الإقليمية الاميركية للشرق الأوسط، وسبب كَوْن مهمة عسكرية مختلفة أكثر منطقية إذا ما ارتكزت على القوة الجوية، ينبغي النظر بإمعان في المهمات الاميركية الظاهرية الثلاث في سوريا:
المهمة الأولى، القتال – إجراء حازم للاستيلاء على الأراضي وإلحاق الهزيمة بالعدو. في سوريا، تكمن المهمة الأولى لـ «القيادة المركزية» الاميركية في «تدمير» تنظيم «الدولة الإسلامية». لكن هل يعني ذلك تدميره كدولة وجيش، وهذا ما تم إنجازه بالفعل، أم القضاء على جميع مخلفاته أيضاً؟
المهمة الثانية، إنشاء بعثات لبناء الأمة و»عمليات تحقيق الاستقرار» تهدف إلى تحويل عقلية بعض السكان وتحسين أوضاعهم على نحو يؤدي إلى تحقيق أهداف الولايات المتحدة. ليس هناك مفر بأن هذه المهمة طويلة الأجل، و»غير نهائية» يقوم بتنفيذها الجيش الاميركي أو يدعم وزارة الخارجية الاميركية أو الشركاء المحليين في تنفيذها. وقد طرح قائد القيادة المركزية الاميركية، الجنرال فوتيل، مفهوماً مماثلاً حول شمال شرق سوريا في تصريحاته لـ «معهد الولايات المتحدة للسلام» في 3 نيسان/أبريل. وتشكل التجربة الاميركية مع مثل هذه البعثات في العراق وأفغانستان عبرة لمن يعتبر.
المهمة الثالثة، وجود/ إظهار القوة/مشروع قوة محتمل لتشكيل التطورات السياسية أو العسكرية. من الأمثلة على ذلك بعثة تواجد الجيش الاميركي في سيناء، ودوريات البحرية الاميركية في الخليج. ومن شأن تواجد مثل هذه البعثة/المهمة في سوريا، أن تعمل على الاحتفاظ بالأراضي والسيطرة على المجال الجوي، والتهديد في الأقل بقيام تمرد متجدد ضد الدكتاتور السوري بشار الأسد، وذلك لتحديد شكل القرارات الروسية والإيرانية. وفي هذا السياق، يواصل مسؤولو الإدارة الاميركية ذكر هذه المهمة لكنهم لم يحوّلوها بعد إلى خطة قابلة للتنفيذ.
أمّا المشكلة التي تواجه ترامب فهي تناقض هذه المهمات وربما استحالة تنفيذها. لقد تم إنجاز المهمة الأولى بشكل أساسي، ولكن القضاء على العناصر المتفرقة لتنظيم «الدولة الإسلامية» أصبح أمراً صعباً للغاية. وفي هذا الصدد، يجدر بالذكر أن الولايات المتحدة لم تنجح في مهمتها مع سلف تنظيم «الدولة الإسلامية» – تنظيم «القاعدة في العراق» – في الفترة 2009-2011 على الرغم من أن قوام القوات الاميركية آنذاك كان يبلغ حوالي خمسين ألف جندي.
ويَظهر أن تركيز «القيادة المركزية» هو على المهمة الثانية، أي تحقيق الاستقرار في شمال شرق سوريا. ويبدو أن الأساس المنطقي «غير الراسخ» في بناء الأمة قد أزعج الرئيس ترامب. لكن هذا السبب الجوهري قد استمال الجيش الاميركي لأنه يثبت عقيدة مكافحة التمرد، إذ يتمتع الجيش الاميركي للمرة الأولى بشركاء جديرين يقيم معهم روابط عاطفية، وهم: كوادر قيادة «قوات سوريا الديمقراطية»، و«حزب الاتحاد الديمقراطي» – الفرع الكردي الفعال للغاية للمتمردين الأكراد الأتراك التابعين لـ «حزب العمال الكردستاني». لكن «عملية الاستقرار» من هذا القبيل غير محددة زمنياً بحكم طبيعتها، ونجاحها غير مؤكد.
ولكن حتى لو نجحت المهمتان الأولى والثانية ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، إلّا أنهما لا تتمتعان بأي أهمية استراتيجية تقريباً. إذ ما يزال تنظيم «الدولة الإسلامية» يعمل في مناطق أخرى من سوريا، ويجد أنصاره بين السكان العرب السنة هناك. لكن جزءاً صغيراً فقط من هؤلاء السكان موجود في المنطقة التي تسيطر عليها الولايات المتحدة. وكما أدركت واشنطن في العراق، يذهب المتطرفون الإسلاميون إلى الأماكن التي لا تتواجد فيها القوات الاميركية.
لن يكون من السهل دمج الوجود العسكري الاميركي في خطة سياسية عسكرية تشمل تركيا وإسرائيل، اللتان لهما قوات عسكرية تعمل من داخل الأراضي السورية أو في المجال الجوي فوق سوريا والأردن ودول الخليج، واستكمالها بخريطة طريق سياسية متجددة للأمم المتحدة حول سوريا، إضافة إلى حجب المساعدات الدولية لإعادة الإعمار إلى حين التوصل إلى نتيجة سياسية مقبولة.
وعلاوة على ذلك، تتناقض هذه المهمة مع رسوخ «القيادة المركزية» الاميركية في المهمتين الأولى والثانية – القتال وبناء الأمة. ولا يتحول اهتمامها عن الهدف الأكبر فحسب، بل كما قال فوتيل، قائد «القيادة المركزية» الاميركية، لأعضاء الكونغرس وفقاً لبعض التقارير، إنه لم يتلق أي أوامر لمواجهة إيران.
ومن خلال الانتقال إلى نهج يركّز على القوة الجوية، وسحب معظم القوات البرية الاميركية، واتخاذ موقف دفاعي ضد بقايا تنظيم «الدولة الإسلامية»، وإعادة التوجيه نحو المهمة الثالثة – أي منع الدخول إلى مناطق معينة واستعراض محتمل للقوة – يمكن للولايات المتحدة حل مشكلات متعددة، على سبيل المثال: الاستجابة لمخاوف الرئيس الاميركي حول مهمة استقرار لا نهاية لها، وتهدئة التوتر مع الأتراك، وتقليل إمكانية وقوع ضحايا أميركيين، والتركيز على الاستراتيجية السياسية العسكرية المذكورة أعلاه مع الحلفاء الذين يواجهون التحالف الإيراني -الروسي.
وهناك سابقة بالغة الأهمية لمثل هذه الخطوة، وهي: عملية المراقبة الشمالية فوق المنطقة الكردية في شمال العراق بين 1991-2003. ففي تلك الفترة لم يكن لدى الولايات المتحدة وجود يذكر بل عدد ضئيل من ضباط الاتصال العسكري على الأرض. وكانت قوات «البشمركة» البرية العراقية الكردية المدعومة من القوة الجوية الاميركية قد واجهت بفعالية العناصر الجهادية وقوات صدام. وقد قبلت تركيا ذلك الترتيب لأنها لم تكن ترغب في رؤية صدام على حدودها (واليوم لا تريد أن ترى الأسد في الوضع نفسه). وفي نهاية المطاف، تحسنت العلاقات بين تركيا وأكراد العراق حيث أدرك الطرفان أنه لا يمكن تأسيس دولة كردية في ظل غياب قوات برية أميركية وسط الأكراد. كما أن الأمر نفسه ممكن بالنسبة للأتراك والأكراد في سوريا.
أمّا الفائدة النهائية من القوة الجوية فهي الحصول على تفويض من الكونغرس الأميركي. وفي هذا الصدد، كان الكونغرس من الناحية التاريخية أكثر مرونة في استعمال القوة الجوية. ويُعد تشريع مكافحة الإرهاب لعام 2001 الذي تمت الموافقة عليه بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر التفويض الأساسي للقوات البرية الاميركية في سوريا، الأمر الذي يعزز الفكرة بأنه ليس هناك هدف من وجود الولايات المتحدة في سوريا سوى القضاء على الإرهابيين.
*جيمس جيفري زميل متميز في زمالة «فيليب سولوندز» في معهد واشنطن وسفير الولايات المتحدة السابق لدى تركيا والعراق وألبانيا.