يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 19
حوارات مع جرجيس فتح الله*
س: افهم من هذا أنكم لا تفرقون كثيرا بين ما ندعوه بالحكم الذاتي وما نمارسه الآن من الفيدرالية في اقليم كردستان . لعلكم توافقوني على ضرورة بيان وجهة نظركم , خصوصا وقد بدأت سؤالي متسرعا –على ما تبين لي – باستخدام لفظة الفيدرالية . وكان الجواب يتعلق بمشروعين للحكم الذاتي فحسب؟
كثيرا ما يتخلف عن التسميات مشكلات , ولاسيما اذا تقررت التسمية قبل ولادة المسمى وهناك مثل سائر وعلى السنة رجال القانون خصوصا وهو “ليس هناك سحر في الالفاظ ” والاصل هو في التطبيق والامتحان العملي . وفي موضوع ثنائية الحكم في القطر الواحد لدينا عدد من المصطلحات وكلها يؤدي الى معنى عام واحد وقد ترجمناه نحن “بالحكم الذاتي” والفيدرالية او “الاتحاد الفيدرالي” كما اردناه وهو ينضوي ايضا تحت واحد من هذا المصطلحات التي كادت تكون مترادفة بالمفهوم العمومي ولا يبرز الاختلاف الا عند توزيع السلطة في القانون الموضوع . والتوزيع لا حدود له ولا ضابط الا الاتفاق عليه . ويتم اطلاق الاسم المختار بحسب الامزجة. مثل حالنا مع أولئك الذين يرون ان يطلقوا على تغيير عنيف فجائي في أسس الحكم اسم “الثورة” في يحن لا يرى الاخرون فيه ما يستحق من نعت غير اسم “الانقلاب” وعملية توزيع السلطة بين الحكومة المركزية وحكومة الاقليم او الأقاليم.
لا لأنه يتعمد الغموض, بل لانه لم يكن هو نفسه يستطيع تحديده وسأتوخى التبسيط فأفترض مقياسا طويلا بقدر المتر الواحد , فبكا أجزاءه المترية الظاهرة للعين التي تعد بألف ملم , يمكنك ان تحصل على انماط واشكال الحكم الثنائي ضمن الدولة الواحدة ببدء بلا مركزية تكاد لا تبين وتنهي بما عرف سياسيا وتاريخيا بالكونفدرالية ونحن اللذين اجتمعنا لوضع مشروع للحكم الذاتي او انا الذي انفردت بوضع المشروع الثاني ما كان يدور في خلد احد منا . ان يخرج بأساس متكامل يصلح بالمناقشة القانونية ليدخل ميدان التطبيق . ففي الاول كان الغرض التحدي واظهار الاستقلالية في حقنا بأبداء رأينا بأمر يتعلق بمستقبل شعبنا . وفي الثاني ربما كان لوجود رغبة جدية في تطبيق المشروع على الإدارات والمؤسسات التي انبثقت في كردستان بعد استنئناف القتال بل قد يكون من اجل اطلاع جهات دولية على مفهومنا للحكم الذاتي تحديدا وضمن اطر قانونية ؟ ومختصر القول اني لا استطيع الاجابة بشكل جازم عن البواعث والاسباب . فقد كلفت بعمل وحاولت انجازه بخير ما امكنني .
س: قد تتذكرون شيئا عن المشروع الذي أنجزتموه بمفردكم خصوصا حول ما اذ كانت هناك ميزة فضل بها على المشروع الأولي ؟
الموضوع ليس موضوع امتياز مشروع على اخر . فقد كانت لكل ظروفه ودواعيه كما اسلفت . كل ما يتسنى لي قوله في هذا الشأن هو توفر المراجع والوقت الكافي لايلاء موضوع الصلاحيات اهتماما خاصا ويغلب على ظني انها بدت في المشروع الاخير اعمق واوسع الى حد القول انها تعدت مجرد فكرة الحكم الذاتي التي سادت اجواء مناقشاتنا واقتراحاتنا وصياغتنا في لجنة اذار 1974 للتقرب من ما يمكن ادراجه في حريم نوع مخفف من الاتحاد الفيدرالي . وهذا غاية ما يمكنني قوله . وانا لا املك الان نسخة من المشروعين تتيح في المقابلة والمضاهاة على اغلب ظني ان السيد مسعود البرزاني يحتفظ بنسخة من هذين المشروعين لانه حريص على جمع واقتناء وحفظ كل الوثائق المتعلقة بالثورة .
اريد ان اختم اجابتي عن هذا السؤال بالتساؤل عن ما يحدو بحكومة الاقليم وبالسلطة الاشتراعية بالتحديد, وها هي ذي وقد قطعت قرابة سبع سنوات وهي تمارس عملا , وقد كسبت قطاعاتها المختلفة خبرة وتبصر بمواطن العثار والنجاح عندما قمنا بصياغة المشروعين الماري الذكر لم يكن لدينا دستور للدولة نستند اليه . بل تصورنا دستورا ومضينا , فما ضرنا الان لو نسجنا على هذا القول في صياغة قانون مشابه ؟ لا ادري هل هناك محذور دولي يمنع ذلك ؟ انه سيبقى قانونا مؤقتا حتى تنقشع الغيوم من سماء البلاد , ويصار الى دستور ديمقراطي لها تتمثل فيه ثنائية الحكم بقانون مدروس يحقق اماني شعبنا ؟
حول تكريم جمال عبد الناصر
س: كانت دوائر معينة هنا قبل فترة قد قررت تكريم عدد من الشخصيات العربية تميزت بمواقف مشهودة من القضية الكوردية وهم جمال عبد الناصر وكامل الجادرجي وعزيز شريف والسيد محسن الحكيم ومحمد مهدي الجواهري . فهل بأمكانكم توضيح مواقفهم التي يجهلها هذا الجيل من ابناء شعبنا ولنبدأ الان بالرئيس جمال عبد الناصر كيف تقومون مواقفه ؟ بماذا تدين له القضية الكوردية . ما قولكم بفكرة تكريمه في أرضنا ووطننا؟
يضعني السؤال في موقف شبيه بذلك الموقف العصيب الذي وضعتني فيه ساعة وفاته وقبل ثلاثين عاما ونيف , وانا اتولى رئاسة تحرير “التاخي” في بغداد وقد استأنفنا اصدارها بعد بيان الحادي عشر من اذار و وقد ارتأت قيادة الثورة ان لا نمر بهذا الحدث كما كانت ستمر به السلطة المركزية واعلامها بسبب البرود الذي كان يكون قطيعة بينها وبين نظام عبد الناصر في ذلك الحين واقر بانها كانت فكرة من القيادة جيدة لانها كانت تخدم اولا علاقتنا الخاصة بمصر وحكامها , ولانها ثانيا وهو الاهم في رأيي تؤكد لدى الشعب العراقي استقلاليو الثورة الكوردية في سياستها ورأيها بعيدا عن تأثير السلطة القائمة وكان علي ان اكتب مقالا رئيسيا بهذا المناسبة . ما امسكت القلم حتى وجدتني اواجه ازمة فكرية حادة . ها اني مقبل على تأبين رجل دفع طموحه وخباله الجامح الى محاولة بناء وطن عربي كبير يضم كل صفع اتخذ اللغة العربية له لسانا ليقوم هو على رأسه وفي سبيله الصعب هذا خلف في الضمير العراقي جراحا تعذر اندمالها وبحصيلة تتمثل في مئات اثر مئات من الضحايا صرعوا في قتال الاعدام . تلك الفتنة التي اثارها هذا الرجل بمحاولة الشواف الانقلابية التي تصدى لها حزبنا الديمقراطي الكورستاني وارسل اعضاؤه وانصاره المسلحين للمعاونة على اخمادها وكنت كما نوهت في حلقة سابقة واحدا ممن ابتسم لهم الحظ بين المئات الذين دفعوا حياتهم ثمنا لها . وخرجت بأقل الجزاء .
هذا هو الموقف الذي وقفته ساعة ما تعين علي الكتابة لكن الواجب قبل العاطفة.
وفي السياسة لا مكان للنوازع والأحاسيس الخاصة.
كانت صورة الرجل انذاك تحتفظ ببعض الرصيد ورونق بل بكثير منه فما زال يبدو للعالم ذلك البطل القومي الذي صرع الملكية الفاسدة وقضى على الاقطاع بثورة يوليو واعاد الى مصر قتالها الى جانب العزة والكرامة التي افتقدتها قرونا واجيالا .
فكتبت ما عن لي عن هذا الرجل الذي حاول بأرادته واساليبه الخاصة وبأحتقار واضح لكل القيم الانسانية من كبت للحريات ومصادرة لحقوق الفرد تحقيق المجتمع الافضل للفرد ورفعه من ذلة وخصاصة الى حياة كريمة مرفهه فأخطاه السبيل . ووقفت هنا واخذت التمس العذر المقتضى في هذه المناسبة لفشله وجئت بالفكرة التي جعلت للمقال قيمته وامتيازه وهي ان مقياس شهرة السياسيين او الرجال الذين يصنعون التاريخ لا تكون بمقدار ما اصابوا من نجاح او ما قصروا دونه او إخطاءه من مرام واهداف . وكم في بطون التاريخ اسماء لامعة لرجال سيف وسياسة خصصت لهم فيها ساحات اوسع بكثير من اخرين كانوا السبب في احباط مشاريع اولئك او تحقيق الغلبة عليهم في ساحات القتال .
واخترت للمقال عنوان “عبد الناصر حيا او ميتا ” وبعثت به للطبع بقلب واجف خشية ان تفتضح الحقيقة في تأبيني .
في ذلك الحين كانت السفارة المصرية في شبه حصار , والداخل والخارج يتعرض للأستجواب والتعقيب لكني استقبلت في مكتبي بعد يومين رئيس البعثة الدبلوماسية المصرية مع معاونيه , وقد اقبل يشكر موقفنا الجريء وعواطفنا الصادقة بأسم حكومته . بطبيعة الحال لم يكن المقال مذيلا بأسمي ويخطر ببالي من الاثر الذي احدثه ان السيد مسعود البارزاني اخبرني اثناء لقاء بعد هذا ان (محمد حسنين هيكل ) وهو يستعرض ما كتب بحق عبد الناصر , نوه بصورة خاصة بما كتب في (التاخي) وعدّه خير ما كتب في هذا الباب . ولم انجح من تبعات المقال طبعا اذ كان واحدا من الذنوب التي حملت السلطة على اختطافي في عرض الشارع بعد محاولة اغتيال السيد البارزاني الشهيرة مباشرة . وهكذا ترى يأتيني الاذى منه حيا وميتا ! وتأتي انت الان بعد ثلاثين عاما لتطلب رأيي في تكريمه . كأن لم يكن ما كتبت في حينه كافيا ؟
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012