في واحدة من تجليات الأديب المصري الكبير توفيق الحكيم (1898 – 1987) التي يلخص فيها رؤيته لأزمة الثقافة العربية، تحدث عن هزات ثلاث أصابت الجنس البشري في مقتل. الأولى هزة الوسط، وهي أشهر من أن تعرف، وهزة القدم، ويقصد بها لعبة الكرة، وهزة الرأس ويعني بها التفكير. وقد أثنى على الهزتين الأوليين وذكرهما بالخير. وعاب على الثالثة وأبدى امتعاضه منها، لقلة ما تأتي به من مردودات. ووصف حصول أحد لاعبي الكرة على بضعة ملايين مقابل انضمامه إلى ناد رياضي أنه أخذ في سنة واحدة ما لم يأخذه كل أدباء مصر من أيام اخناتون حتى أيامنا هذه!
وإذا كانت هذه هي حال رجل مشهور مثل الحكيم نشر في حياته أكثر من ستين كتاباً، ومثلت جمهرة من مسرحياته على خشبة المسرح، وحول قسم منها إلى أفلام سينمائية، ونال جوائز تقديرية من الدولة، وكان قاضياً وموظفاً كبيراً وذا نفوذ واسع حتى وصف بأنه الأب الروحي للثورة المصرية، فكيف هي حال صغار الكتاب ممن لم يسعفهم الحظ إلا بنشر بضعة كتب متواضعة، على نفقتهم الخاصة؟
لقد كان توفيق الحكيم الذي كثيراً ما حظي بمرتبة متقدمة بين أدباء مصر في القرن الماضي، متقدماً حيناً على طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ، ومتأخراً عنهم حيناً آخر، في أوج شهرته في عقدي الخمسينات والستينات، يعاني من تراجع عدد قرائه، وتضاؤل حماسة معجبيه. وكان يقارن حال الكتاب بين مصر وفرنسا التي أمضى فيها ثلاث سنوات من سني دراسته، ويأسى أن تكون بلاده غير مكترثة للنتاج العقلي إلى هذه الدرجة.
ولتوفيق الحكيم إشارات جميلة لا يمكن أن يمر عليها المرء دون أن تعلق في ذهنه. فقد اشتهر بإطلاقه النعوت اللاذعة المعبرة. مثل وصفه للحقبة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية حتى قيام الثورة المصرية عام 1952، وهي حقبة بالغة الخواء، بالعصر الشكوكي. ولم يكن ذلك بسبب تعاظم نزعة الشك لدى المصريين، كما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، بل نسبة إلى مطرب العرائس محمود شكوكو! وقد نال الأخير، وهو رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب، شهرة واسعة بمنولوجاته الشعبية الساخرة، حتى بات رقماً صعباً في الحياة الفنية المصرية، ومثل في عدد كبير من الأفلام السينمائية. وحينما تخاصم عبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم، وهما من شيوخ اليسار في مصر، مع طه حسين وعيراه بأنهما يملكان جمهوراً ضخماً، رد عليهم أن جمهور محمود شكوكو هو أكبر من جمهورهم هم وجمهوره هو بمراحل!
وحينما نال توفيق الحكيم عضوية مجلس الشعب المصري قبل وفاته، رشح ليكون رئيس السن، فاعتذر قائلاً أن هناك من هو أسن منه من الأعضاء وهو محمد عبد الوهاب! وكان الأخير قد حذف عشرة أعوام من عمره متشبثاً بثمالة من شباب غابر. وبسبب هذه الحادثة التي تلاقفتها الصحف أحرج الفنان الكبير وتراجع خمسة أعوام إلى الوراء. لكنها لم تكن كافية في ما يبدو لتنقذه من سندان الحقيقة التي أوقعه فيها الحكيم!
محمد زكي إبراهيم
من ذاكرة الثقافة الهزات الثلاث
التعليقات مغلقة