لأسباب موضوعية وذاتية فشل سكان أقدم المستوطنات البشرية في تأسيس وامتلاك دولة حديثة بالمعنى الذي تعارفت عليه سلالات بني آدم. هذا الفشل الذي لم ينقطع بالرغم من مرور عقد ونصف على زوال النظام الدكتاتوري المباد؛ شرع الأبواب واسعاً أمام شتى أنواع القوارض والزواحف كي تبقى وتتمدد على شتى مستويات الهرم الإداري، من سنامه الأعلى الى وحداته القاعدية، مما شكل مصداً فاعلاً أمام الملاكات والمواهب المؤهلة لشغل تلك المواقع. لا توجد لدينا إحصائيات وبيانات دقيقة عن ذلك الهدر الواسع للطاقات والإمكانات والكوادر العراقية، داخل الوطن وخارجه، والتي حرمت من مواقعها وأماكنها المناسبة لها ولمواهبها وتخصصاتها الفعلية لا الزائفة والاستعراضية كما هو حاصل على أرض الواقع. لكننا نعرف؛ إن أعدادهم واسعة وإنجازات ومآثر غير القليل منهم، قد تصدرت العديد من الأخبار التي تناقلتها وسائل الإعلام المحلية والإقليمية والدولية. إننا اليوم أمام تحديات مرحلة يفترض أن هدفها الأساس هو (الإعمار وإعادة البناء) وجدية المشاريع والخطابات ستتجلى في الموقف من ذلك الوباء وشبكاته ومنظومة قيمه الفاسدة التي تسللت لكل مفاصل المجتمع والدولة أي (زواحف السلطة). في الموقف العملي والحازم والصارم وحده، سنميز بين العنتريات الفارغة والقرارات الشجاعة والمسؤولة التي تضع مصالح الوطن والناس ومستقبل أجياله على رأس أولوياتها. وهذا ما لم نعثر عليه حتى هذه اللحظة، إذ ما زالت معايير (الولاء والبراء) العقائدية والحزبية والمناطقية والشخصية هي السائدة في العمل الممنهج لـ (تلغيم المكان المناسب) كما أشرنا في مقال سابق.
ندرك جيدأ أن مهمة التصدي الجدي لهذا الوباء (زواحف وطفيليات السلطة) ليس بالأمر الهين قطعاً، ويزيدها عسراً نوع الأحزاب والقوى والعقائد التي تلاقفت أسلاب سلطة ما بعد زوال النظام المباد، والتي تفتقد جميعها من دون استثناء لمقومات وشروط الحزب السياسي الحديث، الحزب الحداثوي المرن والذي تستجيب ديناميكيته وحاجات الحياة المتغيرة أبداً.
في المشهد الراهن لا نلمس ونشاهد سوى المزيد من المزاودات والوعود المجنحة التي لا تدعمها الوقائع والتجارب المريرة التي عشناها برفقة هذه الجماعات وهذه الطبقة السياسية الفاشلة والفاسدة. حتى هذه اللحظة وبالرغم من كل الكوارث التي عصفت بسكان هذا الوطن القديم، ما تزال هذه القوى لا تدرك نهاية عصر العقائد والآيديولوجيات الشمولية، وانتقال المجتمعات الى عصر المعلومة والخدمات، حيث تكرس الأحزاب والتنظيمات والمؤسسات الحديثة أفضل ما لديها لأجل ذلك. من سوء حظنا أن فرصة “التغيير” من النظام الشمولي الى الديمقراطية قد حصلت ونحن في أحد أرذل المراحل التاريخية والحضارية التي عرفها تاريخنا الحديث، حيث شروط الفشل جميعها جاهزة لنصل وإياها الى ما نحن عليه اليوم من عجز وانسداد للآفاق، أسهمت بصناعته هذه التركيبة من القوى والزعامات والعقائد، التي ضمت أسوأ ما لدى فلول النظام المباد ومعارضيه السابقين (خلطة للدمار الشامل)، حيث اعتمدوا وطوروا أنواعاً جديدة من (زواحف السلطة) تنسجم وشعارات مرحلة الفتح الديمقراطي المبين. ليس هناك أدنى شك من نوع وشراسة المقاومة التي ستبديها شبكات الزواحف هذه والمتجحفلين معها من سلالات القوارض والطفيليات؛ لأي محاولة تتجرأ على التقرب من أسوار إقطاعياتهم السياسية والاقتصادية والإدارية، لكنها معركة لا بد منها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا الوطن المنكوب بالمعايير والقيم التي انتهت صلاحيتها منذ زمن بعيد..
جمال جصاني
زواحف السلطة
التعليقات مغلقة