الخطاب الديني (الطائفي) في الفضائيات

كأي خطاب يتعلق بشان الانسان وعلاقته بما يحيط به، يعيش الخطاب الديني تحولات وانعطافات تتناغم وحاجات كل حقبة يمر بها، وهذا ما حصل دائماً في تاريخ المجتمعات البشرية قديماً وحديثاً. تحولات هذا الخطاب في الدول والمجتمعات التي شهدت أعظم الثورات العلمية والقيمية (الغرب) واضحة وجذرية، حيث جردت الكنائس من نزعتها الاقصائية والعدوانية (محاكم التفتيش) وما يتجحفل معها من ترسانة السرديات المعادية للآخر المختلف، لصالح مؤسسات كنسية ولاهوت متصالح مع الحياة وحقوق الانسان وحرياته التي توجت لاحقاً بالاعلان العالمي لحقوق الانسان. أما في مضاربنا التي عاشت سباتاً يقارب الالف عام، فقد تخلفت كثيراً في جميع مجالات الحياة المادية والروحية، ولم يستثن من ذلك، حال الخطاب الديني والذي شهد مع نهايات القرن التاسع عشر، باكورة محاولات التجدد مع البعثات الاولى التي ارسلت الى البلدان الاوربية، وعادت حاملة معها حزمة من الافكار والتساؤلات الجديدة، التي حركت المياه الراكدة منذ قرون. وعندما نقارن اليوم بين طبيعة وخصائص الخطاب الديني مع بداية القرن المنصرم، وحال الخطاب الديني اليوم، فلن نحتاج الى جهد كبير كي نكتشف الاختلاف النوعي بينهما؛ فالرعيل الذي ضم الطهطهاوي وجمال الدين الافغاني ومحمد عبدة وباقي القافلة التي سعت لاصلاح الخطاب الديني ومنظومته لصالح الحداثة والتناغم مع تحديات العصر، لا يشبه خطاب قوافل “التكفير والهجرة” التي توجت مشوارها “الجهادي” بتنظيمات القاعدة وطالبان وداعش، وباقي السلالات التي الحقت أبلغ الضرر بسمعة الخطاب الديني. وفي الجانب الآخر فقد لعبت الفضائيات بوصفها وسيلة وتقنية متطورة ومؤثرة دوراً هائلاً في مساعدة هذا الخطاب في الوصول الى غاياته ومقاصده، ومن سوء حظ مجتمعاتنا ان مثل هذه التقنيات قد جاءت في زمن بسطت فيه قوى التخلف والارهاب هيمنتها وتأثيرها على الصعيد الرسمي والشعبي. وقد لعبت فضائية الجزيرة الممولة من امارة قطردوراً قيادياً وتدشينياً في شق الطريق أمام الخطاب السلفي و”الجهادي” عبر تعبئة وتجنيد طاقات وكفاءات تمتشق الازياء واليافطات والعبارات الحداثوية، لكن المبطنة باكثر الافكار تخلفاً وعدوانية، حيث يتسلل من برامجها ونشاطاتها كل ما يؤدي الى اثارة النزعات والحساسيات الدينية والطائفية، وقد اقتفى اثر هذه الفضائية غير القليل من الفضائيات التي ظهرت لاحقاً ومن شتى العقائد والهلوسات التي انتشرت كالنار في الهشيم. كما تحول الخطاب الديني الذي دعى الى الحداثة والتنوير؛ الى ضده النوعي والذي شكل تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) سنامه الاعلى، فان هزيمة هذا الوباء القيمي عسكرياً، تتطلب مواقفاً وقرارات تعمل على تجفيف المستنقعات الراكدة والحواضن والمنابر والمنصات التي ترفد خطاب الكراهية والاجرام بمقومات التمدد والبقاء. هذه الردة الحضارية والتي تجسدت بشكلها الجلي بما عرف باحزاب الاسلام السياسي (المودودي-القطبي) قد وصلت الى ارذل العمر، ولم يعد أمامها سوى الالتحاق بركب القوافل الغابرة التي توهمت نفسها وكيلاً حصرياً ووصياً على عيال الله، لتشرع الأبواب أمام عودة الخطاب الديني المتصالح مع العصر ومع الحاجات الواقعية لعيال الله، بعيداً عن “مستودعات الكراهية” وشيطنة الآخر المختلف التي اهدتنا كل هذا الحضيض المادي والقيمي. وكما طفح هذا الكم الهائل من الفضائيات والمنصات المتخصصة بترويج خطاب التشرذم الطائفي، نحتاج اليوم وبعد كل هذا الحصاد المر الذي تجرعناه جميعاً، الى مراجعة شاملة وحازمة تضع حداً لكل هذا العبث بمصائر من حاولت السماء تكريمه ذات عصر..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة