يوسف عبود جويعد
تعد رواية (إنانا والنباش) للروائي سالم بخشي , من النصوص السردية التعددية , ليس في الاصوات حسب, بل في الازمنة والامكنة والشخوص والاحداث والثيمات , وحتى في الانماط الادبية المستخدمة كأدوات كتابية لفن صناعة الرواية , فقد تمكن الروائي من تقديم اكثر من نمط في التناول السردي , الواقعية الغرائبية, الواقعية السحرية , الواقعية العجائبية , الواقعية الانتقادية , الواقعية الاجتماعية , الفنتازيا , الخيال . ومع هذا كله فأن الرواية نحت منحاً آخر , بكونها استطاعت أن تتصل بالموروث الحكائي الشعبي , حيث جعلت هذا الموروث سياق فني لتدفق الاحداث الغزيرة والكبيرة , كوننا سوف نكتشف الروحية الحكائية لحكايات الف ليلة وليلة , من حيث تشابك الاحداث , وتداخلها وارتباطها ببعضها , وليس من العسير معرفة ذلك من خلال المستهل او الاهداء الذي يمر بنا قبل الولوج للاحداث , حيث يظهر انه متأثراً بحكاياته جدته ( الى روح جدتي (بهية) التي كانت تجمعنا حول مدفأتها النفطية (علاء الدين ) وتروي لنا حكاياتها الساحرة , فتنشر البهجة , والبشاشة والدفء بيننا , على الرغم من آلامها الكبيرة , لفقدها ثلاثة من اولادها الاربعة …) , ورغم أن الفصول التي نسجت من خلالها الاحداث , تشير الى وجود اكثر من رواية , وأنها لو فصلت عن بعضها , فإننا سوف نتابع بذات المتعة والشد والتماسك لنص روائي يضم ادواته السردية المستقلة :-
– حكاية رغد وحدها تشكل مبناً روائياً قائماً بحد ذاته , والتي بدأ بفصولها النص السردي , حيث تبدأ بمحاولة دفن الدفان جثة أبيها , الا انه كلما حاول ادخالها الى اللحد , تظهر الافاعي والعقارب والحشرات المخيفة , التي تحول دون محاولة انجاز مهمته , وتكرار المحاولة لكن دون فائدة , بعدها نكتشف ان والدها (عبدول) كان يعمل في مديرية الامن , ومهمته غاية في الخسة والدنائة , كونه يقوم بأغتصاب كل من يرفض الاعتراف , او اغتصاب نساء المعتقل امام عينيه , ثم يحال للتقاعد ويصبح وكيل الحصة , ويغش فيها , ثم نكتشف انه ارهابي , بوجود عبوات واموال كبيرة في بيته , وتستمر تلك الاحداث لنعيش علاقة الحب مع جمال , هذا الشاب السافل الذي اغتصبها , واخذ فلوسها وولا هاربا, وعلاقتها مع محمود , وغير ها الكثير , الذي يشير بشكل الى ان تلك الاحدات ممكن لها ان تكون رواية
– حكاية عواد الفراري , وعلاقته الحميمية مع اصدقائه حكيم , وثامر , ودورات الزمان والمكان , وحياتهم في الطفول والدراسة , والحرب , ثم استشهاد صديقه حكيم , وثامر , وهروبه من الجيش , واستشهاد اخيه الى غير ذلك من الاحداث التي انها رغم ارتباطها الا انها تشكل نسيج روائياً مستقلا بحد ذاته , لما تحمل هذه الفصول من احداث وثيمات ورحلة حياتية شائكة , اودت به في النهاية الى ان يعيش في المقبرة مشرداً .
– حكاية الام (ام حكيم ) وفقدانها لاولادها الاربعة في حالات مختلفة من الاستشهاد بين مواجهة العدو والانفجارات , وابنتها خولة التي استشهدت في فاجعة جسر الائمة , واحداث كبيرة ومريرة ورحلة من الالم والحزن , والذي انتهى بها اخيراً الى ان تعيش في سردات في المقبرة اعد لدفن اسرتها .
– وحكاية إنانا والشيطان , والتي دخلت دهاليز الجن , ودهاليز ابليس اللعين , وخدمه واعوانه , والصراع المستميت بينها وبينه , وادخالنا في اوتون عالم من الخيال الخصب الذي بدا مختلف عن السياقات الفنية المتبعة في بقية الفصول , والرمزية العالية التي انضوت في اوتونها احداث هذا الفصل , والامور الغيبية الغريبة , حيث يحاول الروائي تثبيت حقيقة ظهور المهدي (عج) , ووصف امريكا والدول الطامعة بأسقاط هذا البلد بالخنازير والقردة كونهم يعرفون هذه الحقيقة , ووصفهم كذلك بأنهم خدمة للشيطان , ومسخرين هم ايضاً لتحقيق مآربه في العداء الخالد , مع الانسان ومحاولة اسقاطه في بحر الرذيلة والكفر , وهي تطرح ثيمات كبيرة ومهمة تخص واقع حياتنا في هذا البلد , واسباب التكالب عليه , واسيباب تلك الحروب المستمرة والتي لم تنقطع لحد الآن , وقد شخص الاسباب في هذا الفصل بشكل عميق وواضح .
وهذا السبب الرئيسي في جعل هذا النص تعددي بكل ادواته , وهو سبيل رائع لجعل الاحداث اكثر تماسكاً وشداً ومتعة , ومتابعة , ورغم جمال وانسيابية السرد للاحداث الكبيرة , الا ان الروائي وقع في هفوات تخالف السياق العام لفن صناعة الرواية منها :-
– الازمنة داخل الاحداث التي بدت مرتبكة وغير متناسقة مع مسار السرد , ومتداخلة وغير منسجمة , ففي الوقت الذي نجد فيه ان فصول رغد قطعت شوطاً كبيراً من الاحداث , وتقدم الزمن فيها , نجد فصول إنانا والنباش قد بدأت تواً معترك النص , حيث تشير الاحداث الى ان الشيطان الذي تنلبس إنانا , لا يمكن لاحد اخراجه , الا سيد علي الدفان في النجف , ويخرج الشيطان في نهاية الرواية ليتلبس جثة (عبدول ) فيكون هو المسخ الذي ينبش القبور , ويخرج النساء الجميلات ويغتصبهن , في حين ان بداية الاحداث في الرواية تشير الى وجود النباش , قبل ظهور , فصول إنانا والشيطان , وكذلك نجد ذلك الارتباك في بقية الفصول , مما يؤكد ان الزمن داخل النص مضطرب
– هنالك فصول من الرواية واخص بالذكر فصول (رغد) غلب عليها طابع الحس الذكوري وكأن من يدير دفة الاحداث هو رجل , بينما ان الاحداث تدار من قبل رغد هذه المرأة الجميلة الناعمة , وهي لاتعرف جبهات القتال , ولا تعرف الاسلحة , ولا تعرف الجزئيات التي يعرفها من يعيشها من الذكور , ومن هنا اود الاشارة الى ظاهرة عامة في السرد , وهي أن صوت الروائي يظل مؤثراً ومتلبساً شخصية الانوثة فينتقل الحس الانثوي الى حس ذكوري,ويجب على السارد ان يكون ملماً وعارفاً بطبيعة وسلوك وحياة المرأة ونعومتها وانثويتها , عندما تقوم بمهمة السرد , أي يجب ان يسود السرد الحس الانثوي
ومن خلال هذه الرحلة السريعة , نكتشف أن الروائي كتب كل احداث الرواية بشكل منفصل ولكل شخصية فصولها , ثم قام بعملية التداخل والترابط ليشدها مع بعضها , ويتضح ذلك من خلال ابتعاد الشخوص في سير الاحداث وعدم اختلاطهم ببعضهم ككتلة نسيجية سردية واحدة , كما يحدث في الرواية ذات الاحداث المرتبطة ببعضها , وإن كانت ترتبط لكنها ليس بهذا التناغم المطلوب , وكذلك لم اجد ما يشير الى علاقة رغد ببقية الشخوص , رغم انها تحتل الحيز الاكبر من الاحداث , وإبتعاد إنانا ايضاً وعدم اقترابها ببقية الشخوص , الا برمزيتها ودلالتها التي اشار اليها بشكل واضح , والمعروف ان العمل الروائي هو احداث مترابطة متصلة وللشخوص علاقة وطيدة ومتشابكة مع بعضها
رواية (إنانا والنباش !) للروائي سالم بخشي , عمل كبير في احداثه , وزمانه , ومكانه , وشخوصه , ينبأ بوجود سارد يمتلك خيال خصب , ومقدرة عالية على الاستحواذ باهتمام المتلقي , وأن الاحداث التي تدور فيها , هي حياة هذا البلد بكل تقلباته.