مهند الخيكاني
صدرت هذه الرواية عن دار نينوى 2017 ، للناقد والروائي حسن السلمان ، بعدد صفحات لا يتجاوز 168ص . وكما أشار الكاتب على ظهر غلافها الخلفي ، أنها تعد وثيقة أنثروبولوجية ، حيث تسلط الضوء على الثقافة المعنوية لتلك الحقبة حقبة الاقطاعية ، ممثلةً بالتقاليد والأعراف والحكايا والمفاهيم السائدة في ذلك الوقت مدعومة بحوارات باللهجة العامية لتلك الحقبة ، مع تشخيص دقيق لتفاصيل الثقافة المادية أيضا ، ممثلةً بأسماء الثياب المستخدمة في ذلك الوقت ، وأواني الطبخ والأكل والشرب ووسائل النقل والنذور وغيرها ، وحتى نكون أكثر دقة ، تعتبر مادة الرواية مادة اثنولوجية ، تستند على تطبيقات اثنوغرافية والتي تعد فرعًا من فروع الأنثربولوجية .
الرواية مكتوبة بطريقة رشيقة جدا وخفيفة العبارة ، لا يستغرق الكاتب فيها بالوصف ، ولا يشعر القارئ بنقص أو فراغ في موضع معين ، تبدو وكأنها محسوبة حسابًا دقيقًا ، لكنها رغم ذلك لا تُشعرك بتلك الحدة ، على الرغم من الافاضة في بعض المواضع عند الضرورة .
أكثر ما شدني في هذه الرواية كطريقة كتابة ، أنها مكتوبة بعد دراسة وتأني ومتابعة وتدوين ملاحظات من خلال اطلاع الكاتب على تجارب روائية أخرى ، ومن ثم كتابته لهذه الرواية . هناك حذر جميل تشعر به أثناء القراءة ، حذر يميل الى الانطلاق والاندفاع ، لكنه لا ينسى مؤاخذاته التي يعرفها مسبقا والتي سقط فيها كتابٌ آخرون قرأنا لهم سابقًا ، خاصة ذلك الاسراف في اشباع مشهد أو موقف معين تمر به احدى الشخصيات ، فلا يوجد هناك جمل زائدة وعبارات فضفاضة ، تجعل القارئ يتيه عن خط سير الأحداث .
تكون الروايات أكثر امتاعًا عندما تطلعك على عالم غريب لا تعرف عنه الكثير ، من مناخه وبيئته وأرضه وطبيعة نباتاته ، إلى أسماء المدن والأحياء وغيرها من التفاصيل ، وربما هذا أحد أسباب لجوء الكثير من الروائيين الى الاشتغال في حقب زمنية ماضية غير مكشوفة تمامًا ، حيث توجد عوالم كامنة تحتاج الى التنقيب ، وأيضا لإمكانية جعلها ذات قيمة معرفية تضيف الى القارئ ، وترفع من مستوى الأداء الجمالي وتوسّع حدوده ، ونلاحظ أن الكاتب اهتم بهذا التفصيل الذي يجعل الرواية اضافة معرفية ، من خلال طريقته الواضحة في احصاء وعدِّ مفردات البيئة .
رواية « قلعة طاهر « في أغلبها تقوم من وجهة نظر العائلة الاقطاعية ، وقد حافظ الكاتب على نزاهته وعدم تدخله ، في تشويه أو تعظيم شخصيات هذه العائلة ، واكتفى بعرضها فقط ، إلا إن هذا العرض الذي امتد على طول صفحات الرواية ، كان يختص بحياة أفراد العائلة والمقربين منها وما يدور فيها ، وقد يشعر القارئ بشيء من التعاطف مع هذه العائلة ، كعادة القراء والجماهير عندما تضعهم أمام قصص حزينة ومؤلمة ، تتضمن الكثير من الانهيارات والتصدعات .
وكثيرًا ماشاهدنا في عينات من أفلام أجنبية ومسلسلات ، كيف يحاول المحامون أو المحترفون في الجريمة قلب الرأي العام الى صالحهم من خلال التأثير العاطفي ، لكن ذلك لا يغير من كونهم مذنبين أولا ، وثانيا عندما يُقبل الكاتب على وصف حالة عاطفية خاصة الى درجة التأثير على القارئ وأحيانا اثارة عطفه ، تضع المتلقي أمام اختبار حقيقي لحدة تفكيره وادراكه ، مهما كانت المهيمنات العاطفية ، ذلك غير أنها تشير الى حيادية الكاتب في وصف مأساة هذه العائلة الاقطاعية ، بمعزل عن الرؤية الشائعة عن الاقطاع وظلمه، عندما يصوّر انهيار تلك الأبّهة والعظمة ، وصولا إلى حالات الذل والهوان ، وانكسار الشخصيات وحزنها المرير ، هذا كله يدور في اطار من الموضوعية والشفافية في نقل وتصوير وجهة نظر شخصيات هذه العائلة التي ترى في الأمر فجيعة .
ومن ثم يجيء الوضع السياسي الذي أفادت منه هذه العائلة أيام الملكية ، ومن ثم أنقلب ضدها بعد سقوط الملكية وأدى الى زوالهم.
لم يركز الكاتب كثيرًا على ثورة الفلاحين ، ولا على وصف حياتهم بعمق ، وأكتفى بأن أشار بلمحات سريعة وخفيفة ، خاصة عندما تخرج الشيخانية وهي والدة الشيخ طاهر الى القرية ، نجد هناك ما يصف الأطفال المتسخين ، والأرض الطينية ، والدعوات الكثيرة للشيخانية ، حتى تدخل بيوتهم ويتشرفون بوجودها … والخ
وربما يكون سبب ذلك ، قناعة الكاتب بأن التلميح في عدة مواضع سيكون كافيًا لنقل الصورة ، وربما لأنه يرى في القارئ المحلي خاصةً والقارئ العربي عامةً ، قارئًا مطلعًا على معاناة الفلاح ولديه تصورات عن هذه الحياة ، ولا تحتاج الى الافاضة والتعمق ، لكنها بلاشك ستشكل عائقًا في حالة تعرضها للترجمة مثلاً ، حيث تختلف نوعية القارئ ومرجعياته باختلاف مكان الولادة والاقامة ، مع وجود فارق واختلاف بين الفلاح داخل الوطن العربي ، وفلاح ينتمي الى دولة غربية مثلا .
أخيراً :
نحتاج أن نقرأ النصوص الأدبية من وجهة نظر كاتبها ، وقناعاته ، وليس ضروريا دائما أن نحاكم النصوص ونملي عليها القناعات الشائعة والمتعارف عليها ، خاصة عندما تكون هذه الأفكار والتصورات الشائعة عن طرق الكتابة ، ضمن نطاق معرفة الكاتب نفسه ، أي أنه لم يقع في السهو والنسيان أو قلة الاطلاع ، وهذه اشارة الى أنه يرغب ب سحب القارئ الى منطقة تفكيره وطريقة كتابته ، وقناعاته المختلفة.