منذر عبد الحر
في إشارة سابقة , كتبتُ عن بعض المسارات الفنيّة لقصيدة النثر , ولعلّي اليوم أتوقفُ مع المسار الذي اختطه الشاعر المبدع حبيب السامر لعموم تجربته الشعريّة , ولنصه الذي أشرع بقراءته الآن وهو « أصدقاء» الذي جاء على شكل مقاطع , ولكل مقطع منها عنوان مختلف , ولعل نص الأصدقاء هو الذي بدأ به الشاعر من خلال رؤية تأمليّة تستند إلى الواقع , وتشكّل منه الفكرة غير التقليديّة للجانب الإنساني والاجتماعي وعلاقاتنا جميعا مع الآخرين , وباختزال النص وكيفيّة عدّه للأصدقاء كصورة مبسّطة عميقة دالة تكمن شعريّة هذا المسار الواقعي المموه من المسارات الفنية لقصيدة النثر , يقول الشاعر حبيب السامر :
مرة تلمست أصابعي
وبدأت أعدها
فرصة مؤاتية
كي أحصي عدد أصدقائي
كان أحدهم يتكرر أكثر من مرة
وأنا أعدهم
و أكرر العد
يتكرر
لماذا أنت أكثر من واحد
على مقدمات أصابعي
يتكرر الحلم
والمطر النازل على هامات أصابعي
يغسل أحد الاصدقاء
……………………….
هنا , نقرأ تمويهاً دلاليّا , فالأصابع يقين ثابت في جسدنا , وعددها واضح , لكن الشاعر وضعها هنا أمامه , لينهل منها رؤيته , ساعيا لقتناص فكرته من تمرّد إصبع على لعبة إحصائه , وهذا التمرّد يشكل اللحظة المشحونة بسرّ الشعر , الذي يجد فيه الشاعر إغراء في البوح , والتأمل , وبالتالي لفصل الأصابع وأنسنتها , وهنا تتضح مهارة الإشتغال الفني , في انسياب القطعة المنثورة , التي تبدأ بنسق حكائي سردي ممهد لرحلة ذات طرافة ومرارة أيضا , فهو يقول» مرة …..» تلمستُ أصابعي , واللمس بالأصابع أيضا , لكنه لم يقل تلمّست أصابعي في يدي اليسرى مثلا , أصابعي في اليد اليمنى , وهنا تصبح الدلالة تقريرية مباشرة , لكنه قال , تلمستُ أنا , أصابعي , وهنا تكمن العملية الشعريّة , التي صنعت أفقا تعبيريا قاد المعنى باتجاه آخر , لتولّد سؤالاً قرائيا لدى المتلقي , وهو كيف , وبماذا تلمّس الشاعر أصابعه , إذن هي لوحة , فالأصابع ليست أصابع مجردة , والتلمّس لم يأتِ بحاسة اللمس المعروفة , وبما أن الحديث عن أصدقاء , فهم إذن إزاء تصورين الأول أنهم قلة , بعدد أصابع اليد الواحدة , والثانية أن الرائي متعلّق بهم فهم لا ينفصلون عن الكف , المفترضة أيضا , وبهذا يضعنا الشاعر ببساطة متناهية أمام لوحة متحركة تبدأ باستهلال مألوف , لكنها سرعان ما تمضي إلى تعبيرات متنوعة تعطي للنص الشعري قيمته الفنيّة .
………
في المقطع التالي الذي يحمل عنوان « نساء» , يقول فيه الشاعر :
النساء يرتشفن القهوة
وأنا
أتلذذ بمرارتها
…………………..
هنا يمارس الشاعر حبيب السامر ذات اللعبة الفنيّة في التمويه , فيتأمل مشهد نساء , ويفترض قهوتهن مرّة , ليدخل دلاليّا في عمق المشهد , ويبوح ما يعانيه , وليأخذ سمة المرارة دلالة تعبيريّة عن ما يعانيه إزاء مشهد جماليّ تتجلّى فيه النساء , باعتبارهن الصورة الأبهى للجمال والفتنة وسر الحياة , يقول الشاعر» انا من يغسل بالليل كل هذا الندم /ويستجير بالحب /كلما حاصرته الخيبة/انا التوت فوق شفتيك/قلب الهدنة في جسد /لا يحتمل النصيحة /اشاكس الضوء في غفلة من الغيم « حتى يصل بنا بذات المسار الفني , من خلال المقاطع الأخرى , تغريد , والتوت , واشتهاء إلى المقطع الأخير « وحدي « , الجامع برأيي لخيوط النص ليجعله نسيجا واحدا , حيث يقول فيه : كل هذه الاحتشاد في روحي
وأنا أرقص وحيدا
…………………….
إن مقاطع نص أصدقاء , هي عبارة عن حالات ورؤى تعبيريّة مرسومة بمهارة , على لوحات متقنة , تدلّ كلّ واحدة منها على فكرة تجسّد بعداً حياتيا ومعرفيّا يعيشه الشاعر , برهافته , وانتمائه للمجتمع , والواقع الذي نحياه جميعا , ولكلّ واحد منا رؤيته الخاصة له …
لعل هذه القراءة السريعة لنص» أصدقاء» للشاعر المبدع حبيب السامر , توضّح أفقاً آخر من آفاق مسارات قصيدة النثر , التي أسعها لرصدها بسلسلة متابعات لهذه التجربة الغنية الغزيرة بعطائها .