عندما وقعت طركاعة التحالف بين البعث والحزب الشيوعي العراقي العام 1973، التي انتهت بهزيمة ماحقة لحقت بالشيوعيين وشبكة تنظيماتهم ونفوذهم، عندما ورطت القيادة آنذاك كوادرها وأعضاءها وجماهيرها بالسير طوعاً الى حيث الغايات التي رسمها من اغتال “الجمهورية الأولى” وقف طيب الذكر شمران الياسري (ابو كاطع) ضد ذلك الانتحار الذاتي لحزبه قائلاً: (الزمال نفس الزمال بس الجلال اتغير) أي أن القتلة و(المنحرفون) لم يتغيروا إلا بـ (الجلال) لحاجات المرحلة الجديدة (ارتفاع منسوب الثورية والتوجهات اليسارية بداية السبعينيات) ومن الأهمية بمكان الإشارة الى أن أبو كاطع قد توقف عن الكتابة بعد طلب الحزب الحليف (البعث) ذلك من الحزب الشيوعي…! وهذا يذكرنا بتحذيرات زرقاء اليمامة لقومها: (إني أرى شجراً من خلفها بشر…) لم يصدقوها وكذبوها وجرى عليهم ما جرى.
قصتنا هذه نوردها لتكرار مشهد إعادة تدوير “الجلال” لكتل وأحزاب وجماعات حقبة ما بعد الفتح الديمقراطي المبين؛ حيث اعتادت على تغيير أسمائها وعنوانيها وعدد من ممثليها، مع كل جولة انتخابية، لصالح أسماء وعناوين جديدة تتهادى على آخر إيقاعات وأهازيج التغيير والإصلاح والمدنية والحداثة وغير ذلك من البضائع الرائجة. هذه الصعوبة والعسر في حصول التغيير المنشود، تستند الى ذلك الحطام الهائل من الخراب المادي والقيمي والنفسي، الذي خلفته أربعة عقود من الهيمنة المطلقة لمخلوقات ومؤسسات وشعارات “جمهورية الخوف”، وبعد ذلك تلقفت القوى والجماعات التقليدية والمتخلفة والمتحالفة عملياً مع واجهات “الفلول”، حيث شكلوا جداراً صلداً أمام أية محاولة جدية لانتشال مشحوفنا المشترك من هذه القسمة العاثرة (إعادة تدوير الجلال) وهذا الإدراك يساعدنا في تلمس السبيل الى نهاية النفق. صحيح أن عددا من الاستبيانات والاستطلاعات تشير الى وجود تعاطف مع محاولات تغيير هذا الواقع البائس والراكد، وميل لاختيار شخصيات مهنية (تكنوقراط) ومستقلة وبعيدة عن الأحزاب الطائفية والتقليدية والاتجاهات المدنية؛ لكن العثور على مثل هذه البدائل، مهمة شبة عسيرة، ومن يتقمص مثل هذه الأدوار في المشهد الراهن، يمكن أن يلحقوا أبلغ الأضرار بسمعة هذه البدائل الواقعية والحضارية، التي ما زالت بحاجة الى الكثير من الجهد والوعي والوقت كي تتشكل ملامحها وتتكامل قدرتها وهويتها المتنافرة وكل هذا الحطام المحيط بنا حالياً.
لكن ووسط هذه المناخات والشروط المتخصصة بإجهاض الانعطافات الفتية صوب التغيير، هناك ما يلوح في الأفق بكونه مغايرا لهذه المعادلة الظالمة؛ حيث يمكن الإشارة الى ما يحدث في إقليم كوردستان بعد التطورات الدراماتيكية الأخيرة، وبنحو خاص في مدينة السليمانية وأطرافها، عندما تحول التذمر والاستياء لدى قطاعات واسعة من سكانها وشبيبتها، الى بدايات وخطوات واعدة بالانعطاف بعيداً عن الكتل المتنفذة والمثقلة بفضلات الحرب الباردة ويافطات التعصب القومي والعقائدي الضيقة، الى حيث تحديات وهموم عصرنا الواقعية، في الحقوق والحريات والخدمات وامتلاك المؤسسات الحديثة المناصرة لكرامة الإنسان وحرياته. كان يفترض بالعاصمة الاتحادية (بغداد) أن تقود مثل هذا التحول صوب مشروع الدولة الحديثة ومدوناتها ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية والمعرفية والإعلامية، لكن قبضة القوى والكتل والذهنيات التي أشرنا اليها، لم تتراخى وما زالت تواصل مهمة تبديل “الجلال” بكل عزم وإصرار..
جمال جصاني
…بس الجلال اتغير
التعليقات مغلقة