مخاوف من صراعات عشائرية:
مصطفى حبيب
عندما أغلق تنظيم “داعش” سدة الفلوجة في حزيران (يونيو) 2015 لأسابيع عدة سرعان ما تعرضت المحافظات الجنوبية الى أزمة جفاف كبيرة، في ذلك الوقت اضطر سلاح الجو العراقي إلى تدمير أبواب السد لفك الحصار المائي الذي فرضه المتطرفون، ولكن اليوم تقوم المحافظات بغلق مجرى نهري دجلة والفرات على بعضها البعض في بوادر حرب جديدة قد تهدد الآلاف من سكان الأرياف والقرى الى الهجرة.
الأحد الماضي شهد البرلمان العراقي جلسة حامية خصصت لمناقشة أزمة المياه بحضور وزير الموارد المائية حسن الجنابي الذي قال صراحة إن بلاده تواجه أزمة حقيقية حول المياه، وقال ان العراقيين يحتاجون إلى التكاتف مع بعضهم البعض أكثر من اي وقت مضى، وعلى البرلمان والحكومة الاهتمام في هذا الملف وربطه بالسياسة الخارجية في البلاد.
ويفخر العراقيون منذ آلاف السنين بامتلاكهم نهري دجلة والفرات ولهذا يسمى العراق منذ عهود غابرة بـ”وادي الرافدين”، وكان العراق حتى عقود قليلة بعيدا عن مخاطر الجفاف التي ضربت دولاً ومدناً كاملة، ويتذكر البغداديون على وجه الخصوص حتى خمسينات القرن الماضي موجة الفيضانات التي تضربهم في كل صيف حتى اضطرت السلطات آنذاك ببناء سد الثرثار حول ضواحي العاصمة لينتهي بذلك عهد الفيضانات.
لكن الوضع اليوم مختلف كثيرا، اذ تشير تقارير رسمية الى ان البلاد مقبلة على أزمة جفاف، وتكمن مشكلة العراق المائية في ان منابع النهرين تقع خارج حدوده وتسيطر عليها تركيا وسورية وإيران التي تسعى بدورها لبناء سدود ضخمة استعدادا للأزمة العالمية المقبلة.
العراق لا يمتلك القدرة على بناء سدود مماثلة لما تتطلبه من جهود وأموال كبيرة لبناء مثل هذه المشاريع الإستراتيجية الكبيرة، وتقتصر قدرة الحكومة على صيانة السدود الموجودة، وشيّد اغلبها في عهد الرئيس الأسبق صدام حسين وأبرزها سدود الموصل وحديثة فضلا عن سدي دوكان ودربندخان في إقليم كردستان.
ووفقا لتقرير رسمي سري أعدته وزارة الموارد المائية قدم الى البرلمان، واطلّعت عليه “نقاش” فأن “العراق خسر 30% من كمية المياه التي كان يحصل عليها من نهري دجلة والفرات، وخلال سنوات قليلة سيخسر 50% من حصته التاريخية، وذلك من دون حساب تأثيرات المناخ وأزمة الاحتباس الحراري العالمية”.
ويوضح التقرير ان “العراق كان يحصل على (33) مليار متر مكعب سنويا من المياه في نهر الفرات، أما اليوم يحصل على (16) مليار متر مكعب، والشيء نفسه مع نهر دجلة”.
وزارة الموارد المائية وفقا للتقرير تقترح البدء في خطة إستراتيجية طويلة الأمد تبدأ من العام الحالي وحتى العام 2035 تتطلب (184) مليار دولار، منها (68) مليار دولار الى القطاع الاروائي الزراعي، اذ ان 80% من المياه في العراق تذهب إلى الزراعة والباقي تذهب إلى قطاع الشرب والقطاعات الصناعية.
العراق من البلدان الزراعية الكبيرة، وبرغم تراجع القطاع الزراعي في البلاد بعد العام 2003 كما هو الحال مع قطاعات أخرى، ما زالت زراعة الحنطة والشعير تمثل الشريان الرئيسي للمزارعين العراقيين خصوصا في جنوب البلاد، وهذه الزراعة مهددة بشكل كبير وفقا لوكيل وزارة الزراعة مهدي القيسي.
ويقول القيسي : “هذه السنة خسرنا نحو 30% من انتاج الحنطة والشعير بسبب شحة المياه والجفاف وقلة كميات الإمطار في ظاهرة لم تشهدها البلاد منذ عقود، وعلينا إعادة النظر في طريقة الري المستخدمة ، والتحول الى انتاج محاصيل لا تتطلب كميات كبيرة من المياه”.
الخطر خلف شحة المياه يكمن في المحافظات الجنوبية التسعة، إذ تتصارع مجالس المحافظات فيما بينها للاستحواذ على مياه نهري دجلة والفرات المارة بها وقطعها عن المحافظات المجاورة، وتطورت الازمة الى اشتباكات مسلحة بين العشائر هناك، ولكن الخطر الأكبر في حال حصول موجة هجرة واسعة للسكان نحو مناطق المياه.
كريم الحجامي أحد شيوخ عشائر محافظة ميسان يقول: “منذ عقود نعتاش على زراعة الحنطة والشعير، ولكن هذا العام تعرضنا إلى خسائر كبيرة بسبب شحة المياه، اذ ان مياه نهر دجلة التي تمر أولاً في محافظة واسط يتم سرقتها هناك دون علم الدولة”.
ويضيف ان “القبائل في واسط تقوم بالتجاوز على الحصص المائية الرسمية المخصصة لها وفق نسب توزعها وزارة الموارد المائية بالتساوي بين المحافظات، عبر الاستحواذ على كميات كبيرة بينما لا يصل إلينا ما يكفي من المياه”.
الحجامي يحذر من استمرار هذه الظاهرة، ويقول “قبل أسابيع اندلعت اشتباكات مسلحة بين عشائر المحافظتين وكادت تتطور لولا تدخل مسؤولين حكوميين وتعهدوا بحل المشكلة بأسرع وقت”.
وتمتاز ميسان بالمسطحات المائية الواسعة ويطلق عليها الاهوار، وفي تموز (يوليو) 2016 قررت منظمة اليونسكو ضم الاهوار الى لائحة التراث العالمي في مناسبة فرح بها العراقيون كثيرا، ولكن أزمة الجفاف التي تضرب البلاد تهدد بخروج الاهوار من قائمة اليونسكو.
الفلاحون في محافظة واسط يقولون إنهم أيضاً لا يحصلون على حصتهم المائية في نهر دجلة وهو ما يدفع بعضهم الى سحب كميات من المياه خارج إطار القانون، وفقا لـ عباس المكصوصي احد شيوخ العشائر هناك.
ويقول ان “محافظة ميسان تتهمنا بالتجاوز على الحصص المائية، ولكن في الحقيقة اننا لا نحصل على حصتنا الكاملة بسبب مشكلة عامة يعاني منها نهر دجلة في قلة مناسيبه القادمة من تركيا، وهذا ما يدفع بعض الفلاحين الى سحب المياه من النهر عبر قنوات غير رسمية”.
المشكلة نفسها في ذي قار والمثنى المجاورة لميسان اذ شهدت نزاعات عشائرية الشهر الماضي بسبب الصراع على نهر الفرات، بينما اعلنت مديرية الزراعة في ذي قار الاثنين الماضي ان ازمة المياه تهدد بوقف انتاج (11) الف طن من الاسماك شهريا في مناطق الاهوار”.
رئيس لجنة الزراعة والمياه في البرلمان فرات التميمي يحذر من تفاقم الازمة خلال الشهور المقبلة، ويقول لـ “نقاش” ان “المشكلة مركبة، الأولى سببها دول الجوار التي تمتلك منابع دجلة والفرات وخصوصا تركيا التي تسعى إلى ملء سد اليسو الكبير، والثانية التجاوزات التي تحصل على مياه النهرين في محافظات الجنوب”.
*عن موقع نقاش.