د. باسم علي
يعد قانون الأحزاب العراقي رقم (36) لسنة 2015، نقطة تحول في المسار الديمقراطي في العراق بعد 2003، لدوره في بناء إطار قانوني حاكم ومنظم لتأسيس العمل الحزبي في العراق، فمن عمل حزبي أتصف بالعشوائية وسوء التنظيم إلى عمل حزبي يسعى ليكون أكثر تنظيما وأكثر مؤسساتيا، حيث من يقرأ القانون سوف يجد بأن القانون سعى مع كل ما يحتويه من عيوب إلى أن يكون خطوة إلى الأمام في تأسيس الحياة الحزبية في العراق، فإذا كان القانون في العديد من مواده قد فصل في طريقة تأسيس الأحزاب، فأنه سعى من جهة أخرى إلى تنظيم سلوكها الحزبي وعمل على إخضاعها إلى مراقبة ومحاسبة مؤسسات الدولة الرقابية، ومن الفضاءات السلوكية للأحزاب السياسية التي سعى القانون إلى تنظيمها للحد من مظاهر الفساد هو موضوع التمويل السياسي، فالأحزاب كغيرها من الفواعل السياسية بحاجة إلى المال لإدامة وجودها السياسي قبل الإنتخابات من خلال تأسيس مقرات حزبية وكسب الأنصار والمؤيدين وتعزيز حضورها الإجتماعي والسياسي في المجتمع، وكذلك هي بحاجة إلى الأموال في أثناء الإنتخابات حيث وجود الأموال يسهم في تعزيز حضورها الإعلامي والدعائي في المجتمع، ما يعزز من فرصها الإنتخابية ولا يقتصر الأمر على مرحلة الإنتخابات، بل حتى بعد إنتهاء الإنتخابات تبقى الأحزاب بحاجة إلى المال، إما للمحافظة على نصرها الإنتخابي أو لمعالجة فشلها الإنتخابي.
وإذا كان المال يحمل هذه الأهمية للأحزاب من جهة، ولنزاهة العملية الإنتخابية الديمقراطية من جهة أخرى، يصبح أمر تنظيمه ومراقبته هو الآخر أكثر أهمية، من هنا عند البحث في قانون الأحزاب العراقي الجديد سنجد بأن القانون لم يغفل أمر التمويل السياسي للأحزاب فهو سعى إلى تنظيمه، حيث أفرد له فصل كامل وهو الفصل الثامن، وحددت المادة (33) مصادر تمويل الحزب وهي كل من: (أولاً: إشتراكات أعضائه، ثانياً: التبرعات والمنح الداخلية، ثالثاً: عوائد إستثمار أمواله وفقا لهذا القانون، رابعاً: الإعانات المالية من الموازنة العامة للدولة بموجب المعايير الواردة في هذا القانون)، لكن نجد القانون عند تحديد مصادر تمويل الحزب لم يتناول التمويل غير المباشر بصورة واضحة وإنما أقتصر على التمويل المباشر الذي يحصل عليه الحزب ما ترك موضوع التمويل غير المباشر الذي ربما يكون مجال واسع لحصول الأحزاب على الأموال بصورة غير مباشرة والتي تتمثل بالدعم الإعلامي والخدمي والتطوعي…الخ.
الأمر الذي يفسح المجال لممارسات فاسدة في عملية تمويل الحزب، كذلك أشار القانون إلى موضوع إشتراكات الأعضاء في الحزب كمصدر من مصادر تمويله إلا أنه لم يحدد سقف محدد لهذه الإشتراكات كما نصت عليها المادة (35/ثانياً): (لا يتحدد الدخل الكلي المستحصل من إشتراكات أعضاء الحزب السياسي بسقف معين). ما يجعل البعض من الأحزاب تحصل على أموال كبيرة تحت مسمى (إشتراكات الأعضاء). كذلك القانون في المادة (38) فسح المجال للأحزاب للحصول على الأموال من خلال الإستثمار في عدة مجالات وهي كل من: (أولاً: نشر وإعداد وتوزيع المطبوعات والمنشورات أو غير ذلك من مواد الدعاية والنشرات السياسية والثقافية، ثانياً: النشاطات الإجتماعية والثقافية، ثالثاً: الفوائد المصرفية، رابعاً: بيع وإيجار الممتلكات المملوكة له). وفي كل مجال من هذه المجالات يمكن للأحزاب الحصول على أموال من داعميين محليين وأجانب، حيث يمكن لهذه الأطراف القيام بشراء مطبوعات الحزب بكميات كبيرة بغرض دعم الحزب، وكذلك الحال في المجالات الأخرى المتعلقة بالفوائد المصرفية، حيث يمكن أن تمنح المصارف فوائد كبيرة للأحزاب أو تعمل هي أو أي طرف آخر على شراء ممتلكاتها بأثمان مرتفعة، وهذه الممارسات سوف تساهم في تعزيز دور المال الفاسد في العملية الإنتخابية الديمقراطية. أما ما يتعلق بالتمويل العام من الموازنة العامة للدولة فقد جاء في المادة (42) (تتسلم الأحزاب السياسية إعانة مالية سنوية من ميزانية الدولة، ويتم تحويلها إلى حساب كل حزب من قبل وزارة المالية). لكن المشكلة في الأمر ترك أمر الموافقة على التقدير السنوي للإعانة إلى وزارة المالية، وترك أمر الموافقة عليه إلى مجلس الوزراء ومن ثمة إلى مجلس النواب عند المصادقة على الموازنة وهذا الأمر يحمل خطورة، ربما تأتي هذه الإعانات أما كبيرة أو محدودة تبعاً للظروف السياسية والإقتصادية للبلاد وتخضع للمصالح السياسية مما يجعل منها ورقة سياسية بين الأحزاب، وهذا ما أشارت له المادة (43) من القانون (تختص وزارة المالية بالموافقة على التقدير السنوي للمبلغ الكلي للإعانة المالية المقدمة من الدولة للأحزاب، وتقدم أقتراحاً بذلك إلى مجلس الوزراء للبت فيه وتضمينه في مشروع الموازنة العامة للدولة)، أما أمر توزيعها للأحزاب نجد بأن القانون قد أعتمد طريقة التوزيع على أساسين: الأول: المساواة بين الأحزاب، حيث منح جميع الأحزاب نسبة (20%) والثاني (80% ) يتم توزيعها على أساس مقاعد كل حزب من الأحزاب في مجلس النواب العراقي، كما جاء في المادة (44 ): (تتولى دائرة الأحزاب توزيع المبلغ الكلي للإعانة المالية على الأحزاب السياسية وفقاً للنسب الآتية: أولاً: (20%) عشرون بالمائة بالتساوي على الأحزاب السياسية المسجلة وفق أحكام هذا القانون). وهذا الأمر كذلك جعل توزيعها قد يتأثر بالبعد السياسي في حالة خضوع المفوضية ودائرة الأحزاب للتأثير سياسي بواسطة حزب أو أحزاب مؤثر فيها. ثانياً: (80 %) ثمانون بالمائة توزع على الأحزاب الممثلة في مجلس النواب وفقاً لعدد المقاعد التي حاز عليها مرشحوها في الإنتخابات النيابية ما يعطي الأرجحية للأحزاب الفائزة في الإنتخابات. أما ما يتعلق بموضوع أستلام الحزب للمعونة من طرف أجنبي جاءت في القانون مادتين تناقض أحدهما الآخر ففي المادة (37/ ثانيا) منع القانون ذلك حيث أشارت المادة في نصها (تمنع كل التبرعات المرسلة من أشخاص أو دول أو تنظيمات أجنبية)، لكن في المادة (41/ أولاً) نجد القانون يسمح بذلك ولكن يشترط موافقة دائرة الأحزاب (على الحزب الإمتناع عما يأتي أولاً: قبول أموال عينية أو نقدية من أي حزب أو جمعية أو منظمة أو شخص أو أية جهة أجنبية إلا بموافقة دائرة الأحزاب)، وهذا الأمر سوف يخضع للمزايدات والضغوط السياسية، وسوف يفسر القانون وفقا لمصالح طرف على حساب الطرف الآخر. لذلك لابد من معالجة هذا الموضوع أما عن طريق تعديل القانون أو إصدار تعليمات تنظم ذلك من دائرة الأحزاب.
من جهة أخرى، قانون الأحزاب بحاجة إلى الكثير من الفقرات للحد من الفساد في التمويل السياسي، حيث لم يكن القانون واضحاً كثيراً فيما يتعلق بموضوع (الكشف والشفافية)، حيث لا يمكن الحد من الفساد في التمويل السياسي بتحديد مصادر التمويل السياسي فقط، ولكن لابد من أن تكون هنالك منظومة رقابية تفرض على الأحزاب الكشف عن مصادر تمويلها بصورة تتسم بالشفافية حيث القانون في هذا المجال إكتفاء بالإشارة إلى موضوع الكشف في المادة (36) (أولاً: عند إستلام التبرع، يتم التحقق من هوية المتبرع وتسجل في سجل التبرعات الخاص بالحزب، ثانياً: يتم نشر قائمة أسماء المتبرعين في جريدة الحزب). حيث إكتفاء بالإشارة إلى هوية المتبرع فقط، ولم يشترط تسجيل مبلغ التبرع من جهة، ومن جهة أخرى، لم يحدد سقف للتبرعات حيث جعل الباب مفتوح وهذا يسهم في قيام الأشخاص والشركات بدعم حزب معين في الإنتخابات من أجل تحقيق مصالحها الخاصة، ما يعزز من ظواهر الفساد السياسي والإقتصادي في البلاد عند وصول أحزاب مدعومة من قبل هذه الأطراف. كذلك طلب من الحزب أن ينشر أسماء المتبرعين وليس حجم تبرعاتهم وأن يتم ذلك في جريدة الحزب وهنا أكثر من مشكلة فبعض الأحزاب لا تمتلك جرائد أو توزع عدد محدود وذلك يخل بمبدأ الشفافية المطلوبة فيما يتعلق بالتمويل السياسي في المجتمعات الديمقراطية. من جهة أخرى جعل المشرع موضوع الكشف من مسؤولية الحزب عن طريق تقديم كشف سنوي بحساباته إلى ديوان الرقابة المالية وهذا ما نصت عليه المادة (39/ ثالثا): (يقدم الحزب تقريراً سنويا بحساباته يعده مكتب محاسب قانوني مرخص ويرفع تقريره إلى ديوان الرقابة المالية)، ولكن المشكلة أن ديوان الرقابة المالية هو جهاز تدقيقي أكثر منه جهاز مسؤول عن الكشف عن الفساد في التمويل السياسي وفي ذات الموضوع الزم القانون ديوان الرقابة المالية برفع تقريره إلى ثلاث جهات سياسية أكثر منها قضائية وهي كل من مجلسي النواب والوزراء ودائرة الأحزاب كما نصت المادة (39/رابعاً): (يرفع ديوان الرقابة المالية تقريراً ختامياً عن الأوضاع المالية للأحزاب إلى مجلسي النواب والوزراء ودائرة الأحزاب)، وكان من الأجدر أن يتم نشر التقرير عبر وسائل الإعلام الرسمية من أجل تعزيز مبدأ الشفافية في التمويل السياسي.
وأخيراً، لم يعالج القانون مسائل عديدة تحمل من الأهمية في موضوع مكافحة الفساد في التمويل السياسي، الأمر الذي يتطلب تعديل للقانون وبالأخص في موضوع مكافحة الفساد في التمويل السياسي الذي تحصل عليه الأحزاب من مصادر غير قانونية.
*مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية