من منا بوسعه أن يحكي عن كتاب يقرأه أو أنهى قراءته للتو؟ وماذا إذا مضى بعض الوقت، لماذا لا نتمكن من استعادة المعلومات التي قرأناها؟
في بداية القرن العشرين أوضح عالم النفس الألماني هيرمان إبنجهاوس كيف يعالج الدماغ المعلومات التي اختزنها وكيف ينساها بنحو تدريجي وقدّم «منحنى النسيان» الذي يوضِّح تسارع فقدان الدماغ للمعلومات في أول 24 ساعة وصولًا إلى الاحتفاظ بنحو 20% منها فقط، ما لم يتم تكرارها.
أوضح هيرمان ، أن النسيان عملية نشطة يقوم بها الدماغ، إذ تكون معظم المعلومات التي نحفظها ذات أهمية قصيرة المدى، مثل تذكرنا لمكان وضع النظارة، ويكون المخ في حاجه لنسيان مثل تلك المعلومات بنحو متواصل ليستعدّ لتذكّر غيرها، وهكذا يكون المنحنى الذي يعبر عن تذكرنا في أعلاه في اليوم الأول، ويستمر في الانخفاض سريعًا بحيث لا يبقى سوى نسبة ضئيلة منها في المخ في انتظار معلومات أخرى.
منحنى النسيان
تكمن المشكلة في أن العقل لا يمكنه أن يفرق بين المعلومات ذات الأهمية قصيرة المدى، وتلك التي يحتاج الاحتفاظ بها طويلًا، وهنا تشير أبحاث هنري روديجر من جامعة واشنطن إلى أن استدعاء المعلومات بعد ساعات ثم بعد أيام من إدخالها يزيد فرص تذكرها وينبه العقل إلى ضرورة الاحتفاظ بها طويلًا.
إلى جانب هذا أوضح جاريد هورفاث الباحث في جامعة ملبورن لاحقًا أنّ الطريقة التي يستهلك بها الناس المعلومات غيّرت بالأساس نوع الذاكرة وطريقة عملها، إذ لم يعد هناك داعٍ للاحتفاظ بكثير من المعلومات في عصر الإنترنت، فقد أصبح استدعاء المعلومات من الذاكرة أقل أهمية، وبدلًا منها ظهرت الحاجة إلى ما يسمى «ذاكرة الإدراك» وهو أن تعرف أين توجد المعلومات ومن أين يمكنك استرجاعها.
كأن توافر المعلومات على الإنترنت وأثره على عقولنا موضوعًا أثاره عام 2008 مقال نيكولاس كار بعنوان «هل يجعلنا جوجل أغبياء؟»، وتتابعت بعد ذلك الدراسات التي تستكشف عادات القراءة الجديدة وكيف تؤثر في معارف القارئ.
الإنترنت ذاكرتنا
وأظهرت الأبحاث أن الإنترنت ووسائل التكنولوجيا الحديثة عملت مع الدماغ مثل«الذاكرة الخارجية»، بحيث لم تعد ذاكرتنا تختزن اقتباسًا من أحد الكتب مثلًا، لإدراكنا إمكانية العودة إليه في الوقت الذي نريده، ولم يعد لدينا ذلك الشعور بضرورة الاحتفاظ بكل ما يروق لنا من كلمات لأننا قد لا نحصل عليها ثانية كما كان في الماضي.
إن الأمر يشبه ما عبّر عنه أفلاطون في الماضي من مخاوف بسبب اختراع الكتابة «هذا الاختراع سيتسبب في تسلل النسيان إلى نفوس المتعلمين، سوف يثقوا في الحروف المكتوبة أكثر مما يثقون بذاكرتهم»، وهي الكلمات التي كانت المفارقة ألا ينتقل إلينا عبر العصور إلا بفضل اختراع الكتابة.
كان للكتابة ذلك التأثير «السيء» في ذاكرة البشر لكن هذا لا يقارن بما قدمته لهم من منافع، والأمر كذلك بالنسبة للإنترنت الذي أتاح لنا استهلاك كم ضخم من المعلومات، وإن لم يسمح لنا بالاحتفاظ بها في ذاكرتنا.
كثرة المعلومات
هناك جانب آخر أوضحته دراسة في جامعة ملبورن، هو أن الناس يتعرضون أساسًا لكمٍّ من المعلومات أكبر من أن تحتفظ به ذاكرتهم، فقط أجريت التجربة للمقارنة بين قدر المعلومات الذي تحتفظ به ذاكرة مشاهدي البرامج اليومية مقارنةً بتلك التي يحتفظ بها مشاهدو البرامج الأسبوعية، وخلصت النتائج إلى أن مشاهدي البرامج الأسبوعية تمكنوا بعد مرور فترة طويلة من تذكر معلومات لم يتمكن من الاحتفاظ بها أولئك الذي شاهدوا البرامج بنحو يومي.
استهلاك الكلمات
القدر الكبير من المعلومات التي تصادفنا يوميًا غيّر أيضًا معنى القراءة، فما نقوم به اليوم هو استهلاك الكلمات وليس قراءتها، والفرق يشبه تناول وجبة من الطعام، وتناول البطاطس المقلية السريعة لذيذة، لكنها لا تحقق الشبع، فالقراءة تعني المعالجة والتحليل ثم التذكر، بينما لا تتجاوز المعلومات التي نقرأها أو نستهلكها سريعًا بنحو يومي عمقًا كبيرًا في ذاكرتنا ولا تبقى بالتالي بحيث يمكننا استرجاعها عندما نريد، اذ أصابنا ما يُطلق عليه البعض «اضطراب نهم القراءة».