بسمة الشوالي
تحمل المجموعة القصصيّة « شجرة البلوط» لعبد القادر بن حميدة عنوان إحدى قصصها وتمتدّ على مائة واثنتين وعشرين صفحة (122) من الحجم المتوسّط كما تأثّثت من اثنتين وعشرين أقصوصة. وهي كتاب «مغاربيّ بامتياز»، فالكاتب جزائريّ، ودار النشر تونسية( الثقافية للطباعة والنشر والتوزيع- تونس 2016) ، وكاتب المقدّمة تونسيّ (الكاتب عبّاس سليمان) وصورة الغلاف مغربيّة (القاص والفنان التشكيلي عبد الحميد الغرباوي)، وهي المنجز الإبداعيّ الثاني للكاتب في جنسها بعد مجموعة قصصيّة أولى «رغبة صغيرة» كانت قد حازت على جائزة دبي الثقافية سنة 2009، فضلا عن ديوان شعريّ صدر ببيروت سنة 2011.
في تقديمه للأضمومة، تعرّض الكاتب التونسي عباس سليمان إلى ما يميّزها من حيث أنها «قصص تبدع في القصّة بالقصّة» باعتبار أنّ الكتابة هاهنا «مدار الكتابة» و»الأقصوصة مدار الأقصوصة» وأنها « لم تحتفل بشيء مثلما احتفلت بتجارب الكتابة قصّة ورواية» (نصّ المقدّمة) ومثلما احتفلت أيضا بالكُتاب في مشارق الأرض ومغاربها عبر استدعائهم إلى وليمة القصّ عبر أعمالهم الإبداعيّة الشعريّة والقصصيّة والروائيّة سواء بذكر عناوين المؤلفات أو الاقتباسات التي انتقتها شخصيّات القصص أو الدّخول مع بعضهم في علاقة صداقة حدّ التماهي كما كان شأن الكاتب عزيز حميد في قصّة «ظلّ الباب» إذ يقول متحدّثا عن الكاتب ألبير قصيري (مصري من أصول سورية فرنسي الجنسية ولغة الكتابة)، «إنّه يشبهني كثيرا.. (..) لقد اكتشفت هذا الشبه فتمسّكت بهذا الصديق. المحبّة وحدها تجمعنا» (ص67). وحميد عزيز ليس الكاتب الوحيد في أقاصيص المجموعة فمعظم الشخصيات وهم غالبا من فئة الشباب ذكورا وإناثا «أصحاب هوس بقراءة القصص والرّوايات»، أو كتّابا، ومنهم «حارس الكتب» ( ص 108) أو بائعها ( قصة «عن الذي أحرق كتبه»). لقد كانت الكتب في هذه المجموعة مدار العلاقة الاجتماعيّة والروابط الإنسانية كالصداقة والزمالة الجيرة بين العديد من الأفراد و» الوسيط الاجتماعيّ» الأنسب لتبادل الأفكار والخواطر والحبّ.
في هذه المجموعة كان العالم قرية فنيّة خضراء وعالما « افتراضيّا» حبريّا نافس في الظرفية الزمنية للقصص ( أقدمها كتبت سنة 2007) وسائط التواصل الاجتماعيّ – رغم أنّه قد «غزت الانترنيت البيوت والهواتف» – في جعل العالم بورخيسيّا بامتياز، يتمثّل في كونه مكتبة كبيرة يتحوّل فيها الكون إلى قرية صغيرة منشأة من كلمات وصور واستعارات، مداره ليس الشات والسنابشات والتدوينات والجمجمات وصور السيلفي والأخبار الطائرة على أجنحة اللحظات المتسارعة، بل الكتب من أرجاء العالم والكتّاب من مختلف الجنسيات والتوجهات الأدبية والفكريّة والأقوال والاقتباسات التي تعبّر في مجملها عمّا هو عليه القارئ أو الكاتب في عين ذاته وفي عين الآخر في آن، وما يجعل صورته الشّخصية أو السلفي الخاص به صورة شخصية فعلا متفرّدة لا تقع تحت طائل الظاهري المبتذل والمعدّل بالفوتوشوب. ففي قصة «شجرة البلوط» تعمل رواية «مريم الحكايا» لعلوية صبح دور الوسيط اللغوي بين الكهل الأرمل العمّ سعيد و»مريم المطلّقة» للتعبير عن هوسه بهذه الشابة الجميلة، ويتّخذ جارهما الشاب بشير دور « تاكسي الغرام» الذي يحمل «مرسول الحب» منه إليها، قبل أن يستغلّ كلاهما مريم وبشير الفرصة للتواصل العاطفي وتبادل لوعة الشوق عبر التوسّط بمقاطع مختلفة من الرواية نفسها في ذهابها وإيابها بينهما. ويتكرّر الأمر في أكثر من قصة يكون فيها الكتاب مدار العلاقة العاطفية التي تجمع بين المحبّين أو بين الأصدقاء سواء بفعل القراءة أو بتشارك الروايات خاصّة أو بتبادل الآراء في بعضها توافقا واختلافا، إلا أنّ هذا خلق في رأينا إيقاعا فنيا وحركيّا رتيبا داخل المجموعة لا نشهد فيه اختلافا كبيرا في بُنية الشخصيات النفسية والفكرية والاجتماعية أو تنوّعا في الأمكنة التي تتكرّر بدورها في إحالة على ارتباط القصص بعضها ببعض في المكان والزمان والقصّة، فأغلب الشخصيات رجالية أوّلا وشبابيّة ثانيا وبلا فروقات شخصيّة جوهرية ملحوظة بما جعلها في رأينا تنويعات على قصّة أصلية واحدة أو نسخا من أصل واحد هو ذات الكاتب كاتبا وقارئا شرها وصاحب مكتبة كبيرة وثريّة، ومولعا بالبحث عن الكتب كجامع المحار من أعماق البحار، وراويا يتولّى دفّة السرد بضمير المتكلم المفرد المذكّر في ثلث القصص على الأقلّ، ومرويّا عنه ملتبسا بأسماء مختلفة في بقية القصص. تشابه جعل بعض القصص تبدو كحلقات متفرّقة من قصة واحدة لكن بلا تطوّر ملحوظ في النسق والبناء سواء تعلق ذلك ببنية الشخصيات أو بصيرورة الأحداث على ما رأينا. فبيت المومس العوجة هنا وهناك وأكثر الكتاب من الشخصيات أو القراء منهم أو كلاهما معا من رواده، وبائع الكتب حميد في « عن الذي أحرق كتبه» ( ص 72) ذلك الذي لمّا كسدت بضاعته بعد أن «غزت الانترنيت البيوت والهواتف» فقام في «غمرة حيرته»، وذات لحظة يأس نتجت عن سوء تقدير الكتاب الورقي، قام بحرق كتبه، يكاد يكون هو نفسه الكاتب عزيز حميد في «ظلّ الباب» ( 59) الذي اتخذ ألبير قصيري قدوة له في الحياة والكتابة والعلاقة مع دور النشر التي « تمتصّ الدّماء ولا تحتفي إلا بالأسماء المكرّسة إعلاميّا كما يشاء « ( ص 67). وهذا التشابه لم يشمل الشّخصيات الذّكور فحسب بل ما يثير الانتباه هو نمطيّة الشّخصيات النسائيّة وقّلة التنوّع في مستوى فعالياتها سواء في الواقع المُحاكى أو في الواقع التخيليّ، وأغلبهنّ بلا ميزة حقيقية حتى المثقفات كاتباتٍ وقارئاتٍ جيّدات ومحبّاتٍ «للقصص والقصاصين» منهنّ إذ يشتركن غالبا في الهجر فجأة والزواج من غير الحبيب. « كلّ النساء متشابهات» تقول عائشة المنحوسة، وإذ يصوّب الصديق إبراهيم عزيز لصديقه الراوي هذا الرأي لا يذكر للمرأة من ميزة اختلاف سوى ما يتعلّق بفتنتها الجسديّة ( 94). فهي مومس عوجة – ولا يخفى هنا ما في التسمية من شحنة رمزيّة تنهل من الموقف التراثيّ السلبيّ تجاه المرأة على اعتبار أنّ «حوّاء ضلع أعوج يُستمتع بها وتُترك على عوجها»، وهي الكاتبة المزيّفة «عبلة ابنة خال مدير المركز تلك القاصّة كبيرة الأثداء والـ.. (الحذف من عند الكاتب) أيضا التي تعرف كلّ شيء إلا كتابة القصص» ( ص17) ومع ذلك تنال دوما الجائزة الأولى في المسابقة، وهي أيضا الزّوجة الشّبقة التي تستغلّ تواجد مدرّس شاب في بيتها لممارسة الجنس في غياب زوجها الجزّار ، وهي المطلّقة التي حوّلت وجهة الشابّ الذي جاءها حاملا رسالة غرام من كهل أرمل مولع بها لتطبق عليه، و هي حنان محبّة القصص التي تهجر الراوي لظنها أنّه يكتب قصصا داعرة ( ص 53) والتي لا تختلف عن حياة التي هجرت خطيبها « بسبب قصّة ظنتها إباحية» (ص117)، ولا نعثر على استثناء سوى في شخصية رجاء الفلسطينية والتي وإن كانت هجرت حبيبها الراوي فجأة كغيرها فلأنّها عادت لتُستشهد في الأرضي المحتلة برصاص العدوّ الإسرائيلي.
«القراءة منزلي» يقول ألبرتو منغويل، وهي كذلك بما تمنحه للمرء من حميميّة العلاقة والعزلة لتأمّل ذاته والتعرّف عليها من خلال مرآة الآخر/ الكاتب وبما توفّره له من حرية الخيال والحلم وإمكانية السّفر عبر بساط اللغة السحري من مكان إلى آخر، ولقد سافر بنا الكاتب عبد القادر بن حميدة إلى عوالم تخييليّة كثيرة عبر أسماء العديد من الكتاب ومؤلفاتهم ومدى قربهم منّا وكم هم يشبهوننا ونشبههم، وحميميّة العلاقة بينننا كقرّاء وبينهم ككتاب أيّا كانوا ومن رأيّ بلد هم. ولعلّ حالة تأمل الذات وموقعها من العالم والناس هو ما حدا بالكاتب إلى التنويع في زوايا النظر التي يمظهر بها ذاته للقارئ العادي وللمبدع في آن، سعيا منه لكسر البحر المتجمّد فيه وفينا كقرّاء بعبارة كافكا لتسيل أنهار المحبة تسقي عجف الأيام وتمهّد دروب التواصل الحقيقيّ والفعّال وتحوّل العالم إلى قرية فعلية لكن مبنيّة من جذوع شجر البلوط ومسقوفة بكلّ الكتب التي اقترحها علينا ضمنيا لقراءتها ولنجعل منها جسور تواصل بيننا وبينه، وبيننا وبين الإنسان في كلّ مكان، فـ»العالم وُجد لكيّ يكون في كتاب جميل» (مالارميه).