هذا الوباء القيمي والمعرفي (إنفلونزا الشهادات) لا يقل فتكاً عن بقية انواع الإنفلونزا التي تصيب البشر وأصناف من الحيوانات. وكل من ما زال بعيدا عن حدود هذا الوباء، بمقدوره التعرف على العلاقة الوثيقة بين انتشاره الواسع وحجم الفساد والفشل الذي اتسمت به حقبة ما بعد “الفتح الديمقراطي المبين”. لقد شاهدنا جميعاً فزعة غير القليل من ممثلي هذه الطبقة السياسية، للحصول على الشهادات الجامعية الأولية وما بعدها، وهم على سنام السلطات التشريعية والسياسية والأمنية العليا في البلد، شراهة وهرولات لم نقرأ عنها في كل التجارب السياسية والانتقالية للمجتمعات والدول. مخلوقات تبيح لنفسها التسلل الى أعلى سلطة تشريعية وسياسية في البلد (عضوية البرلمان) ثم تتذكر حاجتها لشهادة جامعية أولية (البكلوريوس) …! ما الذي يعنيه هذا السلوك؟ وهل له علاقة بالحرص على تطوير ملاكاته المعرفية..؟ قائد عسكري بأعلى رتبة عسكرية، مكلف بمهمة أمنية خطيرة وفي مرحلة غاية في الحراجة يمر بها البلد، يظهر في وسائل الإعلام وهو يناقش اطروحته للحصول على الدكتوراه في العلوم السياسية..! هذا وغيره الكثير من الأعراض المرضية التي تؤكد انتشار ما أطلقنا عليه بـ (إنفلونزا الشهادات) التي احتفى بها مجلس نوّابنا الموقّر ومحكمتنا الاتحادية العليا والكثير من فرسان ونجوم هذه الحقبة العجيبة في تاريخنا الحديث؛ بعد التعديلات الأخيرة التي أجراها مجلس النوّاب على قانون الانتخابات والتي رفع بها شرط الترشّح لعضويته الى شهادة البكلوريوس فما فوق.
يا جماعة نقولها لكم ومن دون لف ودوران؛ لو رفعتم شرط الترشّح لمثل هذه البرلمانات، الى درجة البروفيسورية لن تزداد إلا فساداً وعجزاً، ويمكنكم التأكد من ذلك عبر تصفّح القوائم الصادرة عن هيئة النزاهة والهيئات القضائية وغيرها من المؤسسات الرقابية، حيث يحتل أصحاب الشهادات الجامعية وما فوقها من أصحاب الـ (د) قسمها الأعظم. لا بل أصبح الدافع لنيل هذه الشهادات دليلاً على المقاصد الفعلية لصاحبها، والتي لا تخرج عن الحاجة لقضم أكبر عدد ممكن من الدرجات الوظيفية والمواقع السيادية وما يتجحفل معها من درجات خاصة، وغير ذلك من الأورام التي وضعتنا بكل جدارة بين الدول العشرة الأكثر فساداً في عالم اليوم.
مشكلتنا لا علاقة لها بهذه المعايير المعاقة (الشهادات) والتي ولدت من رحم الدولة الريعية الملوث، مشكلتنا أننا جزء من مجتمع ومؤسسات فقدت الصلة بكل ما له علاقة بورش إنتاج الخيرات المادية وقيمها الاجتماعية والأخلاقية والسياسية الراقية. وما هذه الطبقة السياسية وكتلها وأحزابها وزعاماتها البائسة إلا انعكاس لهذا الحضيض الذي انحدرنا اليه برفقة جمهورية الخوف وما خلفته وراءها من فضلات وسكراب مؤسسات وإرث وتقاليد ومعايير. إننا بحاجة الى تشريعات لا تقودنا الى المزيد من التشرذم والضياع (تعديل قانون الانتخابات الأخير على سبيل المثال لا الحصر) الى قوانين تحمي المجتمع من آفة التشرذم والتخندق الطائفي والإثني، قوانين تردع هذه الجماعات والكتل التي لا تمت بصلة للحزب السياسي الحديث ومتطلبات العملية الديمقراطية وإعادة صناعة المشروع الوطني والحضاري، والذي انقطع قبل أكثر من نصف قرن. ذلك المشروع العابر لمستنقعات “هوياتكم القاتلة” لن ننتظره منكم ومن حذلقاتكم التشريعية التي لا تضمر سوى المآرب والعقارب لمشهد يزداد غرائبية وعتمة مع كل اقتراب من موعد انطلاق الغزوات والصولات على الصناديق..
جمال جصاني
إنفلونزا الشهادات
التعليقات مغلقة