إعادة التدوير تجمعنا

لأسباب إقليمية ودولية تدخّل المشرط الخارجي لاستئصال أحد أبشع الأنظمة التوليتارية في تاريخ المنطقة الحديث، ذلك (الحدث- الزلزال) ربيع العام 2003؛ أطاح بالتوازنات السابقة التي حفظت ركود هذه المضارب لعدة عقود. بعد ذلك كشفت التطورات والأحداث عن الإمكانات الفعلية لهذه البلدان وبنحو خاص بلد التجربة (العراق) والذي شهد تحول فرصة الخلاص من النظام المباد؛ الى مسلسل طويل من الكوابيس لم تخطر لأكثر المخيلات تشاؤماً. حتى هذه اللحظة وبالرغم من عظم الكوارث والمحن التي تجرعناها، لم نتخطى حدود القدرة على إعادة تدوير ما بحوزتنا من بضائع مادية وقيمية تلاقفناها جيلاً بعد جيل. هذا الحفل التنكري الواسع بعد ما يعرف بـ (حقبة الفتح الديمقراطي المبين) وتبادل الأدوار بين المشاركين فيه من شتى الأحجام واليافطات والعناوين، أكدوا على مدى تجاوز الأربعة عشر عاماً على أننا نشترك جميعاً بموهبة واحدة لا غير وهي إعادة تدوير كل فرقة وجماعة ما لديها من سكراب البضائع. هذا الأمر لا ينحصر فقط عند الكتل والجماعات المهيمنة على المشهد الراهن، بل يمتد الى الجماعات التي لم يحالفها الحظ بقضم قطعة ذات قيمة من اسلاب الغنيمة الأزلية، فاضطرت الى رفع يافطات المعارضة وما يتجحفل معها من دعوات وشعارات للإصلاح والمدنية والتغيير. مثل هذا العقم والحمولات الكاذبة لم تأت من فراغ، وهي تستند الى أساس موضوعي يرتفع على ركام هائل من عدم التجدد والركود، وقد أمدته السياسات التي اعتمدت على اقتصاد الرزق الريعي، بكل ما يحتاجه من مناخات وعلاقات وقيم كي يبقى ويترسخ.
البلدان التي عرفت التجدد والرقي الحضاري والازدهار، عاشت قبل ذلك الحاجة لمثل تلك التحولات، بعد أن شرعت بإنتاج الخيرات المادية وابتكار ما يتناغم وتلك الانعطافة الاقتصادية والاجتماعية من أفكار وقيم أخلاقية ومعايير معرفية. ولأننا لم نخض مثل تلك التحديات ولم نعش همومها، بقينا متمترسين حول “ثوابتنا الجليلة” والتي نعيد تدويرها واجترارها عند كل مصيبة تحل بنا. العجز عن التجدد أو كما هو عنوان مقالتنا هذه (إعادة التدوير تجمعنا) لا يستثني أي من الحوانيت السياسية بمسمياتها المختلفة (قومية ويسارية وشيوعية وإسلام سياسي وليبرالي وغير ذلك من عناوين) لأننا جميعاً نستمد مناهجنا وسلوكنا وممارساتنا من هذه البيئة الراكدة وأسلوب إنتاج الثروة وتوزيعها وحيازتها، والتي تستند الى أساس متين من اللصوصية والفرهدة. من دون حصول تحولات فعلية ونوعية في أسس هذه البنية التحتية المتفسخة؛ لا يمكن انتظار أية تحولات جدية وواقعية على المدى القريب أو البعيد. نحن الآن على أبواب الدورة الرابعة للانتخابات النيابية والتي سترسم توجهات البلد في السنوات الأربع المقبلة (2018-2022) وكل المعطيات والتسميات والأرقام والاصطفافات والمناخات تشير الى أن القوم عازمون على الالتزام بموهبة الأسلاف، في إعادة تدوير نفس القوافل والعقائد والسرديات المتخصصة بصيانة وترميم كل ما يبقينا بعيدين عن شرور وأطماع عالم، يتدافع الملايين منا للوصول الى سواحله ونقاطه الحدودية. إن إعادة إنتاج مثل هذه البرلمانات والسلطات والمؤسسات السياسية والإعلامية والأكاديمية والجمعيات والنقابات والمنظمات الفاشوشية؛ هو تعبير دقيق لإمكاناتنا الواقعية والمستويات التي انحدرنا اليها جميعاً بعد عقود من الخنوع والإذلال المنظم وغسيل الأدمغة وتلويث الضمائر والقيم، وهذا الإرث الثقيل لا يقاوم بالتعاويذ التي انتهت صلاحيتها منذ قرون..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة