التشكيلية التونسية: عارية في اللوحة تحت اليد
تونس ـ إحسان ناجي:
جدل أسود الكادر والهدوء.. أحمر الذاكرة، تميمة اللون المقصود: من تحت الحجب الحُمر تتبصر، بتجريب الأشقر الجسدي.. الى اللاوعي، ويذهب فراغ اللوحة على ناصع عميق الى متأخر قديم في التربية والتعليم، «المدينة متشكلة أولى في وجوهنا على خام اللوحة الأسمر»، والمادة الهادفة الى راحة أعالي الفنون الجميلة جداً. ثم في مزاج لونيّ آخر مهرت صورتها بـ «غبية»، وفي حين يستجدي الفوتوغراف ابتسامتها كانت تضحك، على الدواخل، بنصف وجه تهشم فظهر نصف منه جمجمة لفينيقية قضت صمتاً، بيد أنها ترقص أمام القماش الخام الأسمر لتؤجل فضح حقيقة: المرأة التي يجب أن تكون عارية في اللوحة تحت اليد.
لون من التشكيل التونسي هنا: منى فرجاني.. فن بتعبيره الراقص على اللون المُشتقّ. وهذه «فرجاني» مضت ثائرة على الفحل المناطقي بـ «فنونه» حتى أسهمت في «كسر القطيعة بين الأكاديميين والعصاميين» في بلادها؛ ترسم انقطاع حيض الفكرة الأنثى منديلاً لا لون له، وتحلق رأس الفكرة لسجين فرشاة يابسة. وإذا ما تمتحّ من بين خصلات شَعر مخضب باللون الأخير مهر الرسمة، فهي، بالكاد، تدلق على رأس البنات المجهول للأزمات العربية القديمة، لون مفرح: عندما تكون للحيطان هوية كـ «هي».
منى فرجاني، هل تمسكين الفرشاة بالمقلوب!؛ في لوحاتك أنت تتحدثين بصراحة (عارية)؟
• للمرأة وجود صارخ في اللوحات. أنا أنثى ولم أتحكم في ما رسمته ذلك أن الأوجاع والأفراح والآمال والخفايا والباطن والظاهر.. وكل ما يمكن أن يعكس وجود المرأة في داخلي فرض نفسه. أنا أتحدث عن اشتغالي وعن الفن عموماً.
في نتاجك صورة بوجهين: مرهوب (تبئير) ومطمئن (واقعي)؟
• لا أؤمن كثيراً بالقواعد «المقيدة» في التعامل مع اللوحة تقنياً، عملت على كسر العديد من القواعد في تفاعلي مع الألوان والفضاء باللوحة وخلطت بين أكثر من تيار و»style» في اللوحة الواحدة، أحيانا أرى في ذلك حرية في التعبير الفني؛ تعبير عن قبول الفنان لما سبق من أعمال وما يعاصره منها.. وفي الوقت نفسه يستشرف منها مدى قدرته على البعث الفني.
– هل تتقصدين، في الأغلب، طرح اللون خاماً، أم أنك ترين أن لا داع لخلط الأفكار؟
• الفن التشكيلي هو إعادة تشكيل ما تراه العين المجردة في الواقع بطريقة مغايرة بعد العديد من التأثيرات الوجدانية والحسية والعقلية والاجتماعية والنفسية.. وحتى الانسانية.
عرفينا بـ «Fiesta»؟
• كان حدثاً.. ( fiesta ) هو أول مبادرة في تونس يصل فيها العصامي (غير الأكاديمي) الى الالتقاء بالأكاديمي في المعاهد العليا للفنون الجميلة، شرعنا لكسر خيط القطيعة الذي فُرض على الطرفين؛ نظراً للحساسية المعروفة بين التكوين العصامي والتكوين الأكاديمي؛ لا يُخفى ان الابداع وحده غير كاف من دون معرفة في المجال والعكس صحيح.. تقنية بلا روح لا تكفي لحقيقة الطرح التشكيلي. ما أروع أن يكون الابداع مهذباً بالتكوين والمعرفة فيخرج الأثر الفني مؤثراً وكله ثقة، إذ كانت هذه غاية fiesta في حفل أول يوم للعودة الجامعية بالمعهد العالي للفنون الجميلة بـ «نابل» (ولاية شمال شرق تونس) للانفتاح والتلاقي والنقاش.. ولقد نجحنا في لمّ شمل الفريقين (الأكاديميين والعصاميين) في الاقل وتقبل الطرفين المبادرة.
لماذا لا يتحدث الفنان عن فنه وأعماله أو يترجمها بلغته؟
• على المتلقي قراءة اللوحة كما يشاء مهما كان عمره وثقافته وعلمه وخلفيته. يختلف تفاعلنا مع الأثر الفني باختلافنا إذ هنا لا يصبح نخبوياً أبداً. إن تحدث الفنان عن معنى ما رسمه وما قصده وما يريد ان نعبر عنه: انتهت الحكاية.
كيف تنظرين للتشكيل، على مستوى المنطقة العربية: حاضر فاعل أم هو محاولات بمعنى ما، أو ماذا؟
• الفن التشكيلي في الوطن العربي يناضل من أجل ايجاد دوره في الحياة الثقافية وتتفاوت النضالات من بلد عربي الى بلد آخر لأجل تحقيق نوع من الوحدة العربية في مجال الفنون التشكيلية، إلّا أنه في ظل انعدام سياسة ثقافية واضحة تعمل على وفق برامج ومنظومة تساعد على جعل الفن بالتأثيرات الاجتماعية المحيطة وبالتاريخ والتراث الفني لكل بلد وبالمتغيرات والتأثيرات لعالم الفنون التشكيلية الغربية في ظل تاريخ وواقع الفكر العربي، لم ينجح الفنان التشكيلي العربي في أن يكون فعالاً إلّا على مستوى النخبة.. لذلك بقي الفن نخبوياً برغم قدراته الجمالية والتقنية وأساليبه واصالته وتوقه للانفتاح على العالم الغربي، وهو ما يزال في محنة عدم الوضوح، وللفنانين دور أيضاً في هذا ذلك أنهم لم يقدموا حتى الآن فناً عربياً معاصراً بخاصيات عربية وان كان متاثراً بالغرب. . مع انعدام الوضوح في الرؤية على هذا النحو. زد على ذلك انه برغم غزارة المادة الفنية وكثرة النشاطات والمعارض والتظاهرات لم يجد الفن التشكيلي العربي مكانة في حياة المواطن ولم يتفاعل معه وبقي حكراً على النخبة ذلك أن الفنان نفسه لم يعرف كيف يستقطبه بممارسات نوعية تجعله يقترب من هذا العالم الذي يراه غير مجد في ظل الظروف الراهنة. ونلاحظ انه هناك محاولات للخروج من المألوف والمتداول في الفعل الفني ببعض التجارب التشكيلية وهذا جميل ولكن تأتي هنا عملية تطوير هذه التجارب وتبنيها من طرف من يسهرون على مجال الفنون.. وهنا نقصد الوزارات وكذلك العائلة الفنية نفسها التي بدورها لا تتقبل هذه التجارب بسهولة وتبقي على نمط محاكاة الواقع نفسه ولا تفتح المجال لتعبيرات انسانية عالمية فهي تتشبث بالقواعد التي تعداها زمن الفعل الفني حتى على مستوى معالجة الأثر الفني بذاته. لكني أود التنويه الى أن التشكيلي هو من يعيد صياغة الشكل الذي يراه ويحسه ويتفاعل معه بطريقة أخرى على محامل متعددة او بأساليب أخرى، وقد تعددت الأساليب الحديثة وتنوعت واختلفت معها المعالجات أيضا. وبقي الفنان العربي رهينة تأثيرات المكان والزمان والسياسات المغلوطة والمنظومات الثقافية غير المبنية على أسس صحيحة.
من اين تنحدرين على مستوى التشكيل؟
• لا انتمي الى مدرسة فنية معينة، أنا فنانة تشكيلية عصامية لدي مساحة كبيرة في تعاملي مع الفن. لا أؤمن بالقواعد التى أراها تعرقلني، أطلق العنان لتعبيرات مختلفة التي بالتأكيد يكون لديها تأثير لواقعي ولتجربة الماضي ولاستشراف الآتي.. تجربة وجودية انسانية متأثرة بثقافة تونسية وغربية مخضرمة. تحسست طريقي للفن وحدي ولم أتتلمذ على يد أحد، جربت وأخطأت في أشياء ونجحت في أشياء أخرى.. لتستمر التجارب منذ 2001. لكن حتى الآن ينتابني الشعور بعدم الرضا على عملي.. وذلك من دواعي رغبتي بتطويره أكثر.
وصفت نفسك بـ «الغبية» رفعت ذلك على صفحتك (الفيسبوك)، هل ينقص الفنان «تشكيل الذات»؟
• بخصوص ذلك، نعم أنا غبية لأنني صدقت الكثير ممن يدعون أنهم أساتذة الفن. فعليّ لأن أصبح ضمن العائلة الفنية المسيطرة على المشهد الفني والتي أسميها مافيات الفن التشكيلي في تونس، أن أتنازل لصالح أمور أكاد أصفها غير اخلاقية.
لكن يبقى همي تونسيا بالأساس وانسانيا في المطلق، وأحاول أن أعبر عن ذلك من خلال ما أقدمه من تشكيل.
ببلوغرافيا:
منى فرجاني فنانة تشكيلية تونسية شاركت في أكثر من 60 معرضاً على مستوى تونس وخارجها، من بينها 8 معارض شخصية وتظاهرات ومنتديات فنية. عَدّت سنة 2013 في تونس سنة الفن التشكيلي وكان لها شرف لقب أفضل فنانة تشكيلية عصامية في تونس. عرضت في اسبانيا وايطاليا وغيرهما من الدول أعمالها ضمن ورش وملتقيات أو معارض شخصية.
على مستوى فنّها، فان هدفها الوحيد هو ان تجعل للفن التشكيلي، قدر امكانها، مكانة في حياة المواطن والمثقف التونسي على حد سواء، فضلاً عن ان يصبح للفن التشكيلي قيمة معنوية ومأثر في الشخصية التونسية أولاً و»الكونية» في الأعم من ايمانها بأن الفن يهذب الذوق ويغذي النفس بقيم قد تصلح حتى كطريقة تعامل للانسان.. مع محيطه وتعاطيه مع المادة الثقافية.