يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 6
في العام 1945 وجهت الدعوة لحضور حفلة استقبال للملك عبد الله بن الحسين والوصي عبد الاله من قبل بلدية الموصل في بهو البلدية واذكر اننا نحن صغار (الوجهاء ) الجدد اقتعدنا متحلقين طاولة قريبة من الباب . ومضى اغلب الوقت واذ (بمحمود خالص ) يدخل متلصصا ويجلس معنا وبالقرب مني مشيرا ان لا ننهض له . الا ان عيني محافظ اللواء (عبد الله القصاب ) لمحته فأقبل عليه وراح يعاتبه بقوله .” بحثنا عنك ليلة امس بطولها وجلالة الملك ينتظرك لتلاعبه اشواطا”. وشدد عليه بلزوم المجيء تلك الليلة . اجاب (محمود خالص) :”اني لست معتادا مجالسة الملوك ولن اتي مهما كلف الامر فتدبر الامر “, قال هذا وانصرف حالا .
بقيت هذه الواقعة تشغل بالي سنوات وبرغم علاقتي به وزيارتي له كلما حط بي الرحل في بغداد لم اجد في نفسي الجرأة على سؤاله عن تفسير موقفه فقد كان واحدا من اشهر لاعبي الشطرنج في العراق . وكذلك عرف الملك عبد الله بأدمانه تلك اللعبة . ثم وبعد مرور ثماني سنوات تقريبا القت بنا الصدف معا في مصيف صلاح الدين , وكنا نلتقي يوميا صباح مساء . يأتي (الكازينو) متأبطا رقعة الشطرنج مع صديقه المحامي عبد الرحمن زيور واقدم انا بصحبة كتابي فيتنازل لي عن (قلعتين ) ويلاعبني فيغلبني دوما.
وفي خلال صحبتنا هذه سنحت لي فرصة الاستفسار منه عن موقفه في بهو البلدية من طلب الملك . وكانت دهشته عجيبة لبقاء الحدث ملازما لي طوال المدة فقال بلغني عن الملك عبد الله انه ما كان يطيق ان يقر لاحد بالغلبة عليه في لعبة الشطرنج وانه يعمد الى قلب رقعته بحركة يتعند ان تبدو غير ارادية , ما ان يلوح له تفوق خصمه وان الخسارة محتومة عليه , فكرهت ان اعرض نفسي الى مثل هذه المهانة .
لا انسى قط كيف كان حينذاك يجلس الي جلسة تلميذ ليتلقى عني كتابة الارقام بلغة عربية سليمة وهو ما يعرف في علم النحو (بالتمييز العددي ) . اذكر اني قصدت داره المتواضعة القريبة من نصب الجندي المجهول برفقة الاخ جوهر دزئي احد اعضاء محكمته كما ذكرت وكان قد رقي حديثا للمنصب . وفي مجلسه كنت تجد الوزير السابق والقاضي المتقاعد الى جانب عدد من اساتذة لعبة الشطرنج . كان مستغرقا في شوط مع وزير ملكي سابق . الا انه ترك الرقعة واقبل علي وجلس بقربي بكل تواضع ورقة يسألني عن احوالي ويشجعني على الاحتمال وكنت اذ ذاك معرضا لسخط النظام القاسمي وملاحقته.
وقد انتشرت قصة خلافه مع عبد الكريم قاسم وموقفه انتشارا واسعا ومع اني افتقر الى تفاصيل معينة , لكني استطيع التأكيد انها كانت بسبب حرص (محمود خالص) على استقلال القضاء في الفصل بما ابقت له محاكم( قاسم ) الاستثنائية من صلاحيات ومما قيل ان هذا الدكتاتور استاء من قرارات معينة اصدرتها محكمة التمييز ومنها تحديها قرار وزير الداخلية الذي رفض اجازة تشكيل حزب تقدم به اصحابه بأسم الحزب الاسلامي – وبموجب قانون الجمعيات الذي اصدرته الحكومة في ذلك الحين (1960) استخدم المؤسسون حقهم في تمييز القرار فنقضت المحكمة قرار وزير الداخلية وقضت بمشروعية تأليفه معللة قرارها على اغلب ظني – بأن منهاج الحزب لا يتعارض مع المبادئ الديمقراطية وانه لم يثبت ان لمؤسسي الحزب علاقة بأي جهة خارجية .
كان قرارا قانونيا لا دخل للعاطفة والميول الخاصة فيه بديل ان المحكمة عينها ايدت قرار وزير الداخلية برفض اجازة حزب اسلامي اخر بأسم (حزب التحرير).
وكانت الحكومات الملكية السابقة قد باشرت ببناء صرح لمحكمة التمييز في الاعظمية وقد انتهت البناية في السنة الاولى من عهد قاسم وسلمت المفاتيح لرئيس المحكمة . الا ان (قاسما) لم يسمح بالانتقال اليها وكانت ثم مقبلة في ختامها القى (محمود خالص) مفاتيح البناية على منضدة قاسم قائلا انه يستطيع ان يعقد جلسات هيئات محكمته بين بساتين النخيل او في الهواء الطلق لو تطلب الامر وقذف بوجهه كتاب استقالة اعده . ولم يقدم (قاسم) على شيء واثر الانتظار ليبلغ محمود خالص سن التقاعد . وهذا ما بلغني وهو قمين بأنسان مثله ولم تتح لي الظروف لسؤاله عنه وربما كان للاخ جوهر الخبر اليقين .
وفي العام 1970 شرفني بزيارة وانا بمكتبتي في صحيفة (التاخي ) . وقد حرصت على ارسالها اليه كما حرصت على ان ابعث اليه بجريدتي الموصلية من قبل وبكل ما اصدره من كتب وبينها كتابان في القانون . وهو يمطرني برسائل شكره وتمنياته ولا يغفل مناسبة مهما صغرت للكتابة . جاء يخفره اثنان من المحامين متوكأ على عصى . وغالبتني العاطفة وعلاني الخجل الشديد فأسرعت اليه قبل ان يضع قدما على اول درجة لكنه ابتدرني قائلا :”جئت ارد زياراتك العديدة واهنئك بالسلامة ” وكان هذا اخر عهدي به.
المجالس العرفية العسكرية في العهد الملكي
س: قبل أن أطالبك بالجزء الأخير. ربما افدتنا بشيء عن تجربتك في المجالس العرفية العسكرية ولا اقصد محامياً بل متهما؟
واجهت ثلاثة مجالس عرفية عسكرية متهما لا وكيل دفاع ولم اخش احدها قط بهذه الصفة المهنية . واولها كان في العهد الملكي فقط . والحديث عنه يصلح تضمينه السؤال . في العام 1948 اعلنت الاحكام العسكرية العرفية في جميع انحاء العراق .
بمناسبة سوق قطعات صغيرة من الجيش العراقي الى فلسطين . وبحجة حماية ظهره في الوطن من عناصر التخريب وصيانة مؤخرته من الجواسيس والعملاء . كانت حجة مثيرة للسخرية ومثارا للتندر . اي شكل هذا هو الجيش الذي يحتاج الى محاكم لحمايته من المواطنين الذين كانوا مصدره ونواته ؟. الا ان السبب الحقيقي كان لاجل السيطرة على نتائج الانتخابات النيابية وهي وقتذاك على درجتين . في ذلك الحين كانت رئاسة البوليس منوطة برجل تتجسم فيه الغلاظة والقسوة والطموح الى الترقية عن طريق تطبيق خطة الحكومة في انجاح مرشحيها –كلها اجتمعت فيه- لتجعل منه ضبعا كاسرا. اسرع فأخرج قائمة (المشبوهين ) السياسيين المعادين للسلطة الذين يخشى منهم التأثير على الانتخابات الثانوية وبعث بها الى قائد القوات العسكرية في كركوك حيث المجلس العرفي العسكري واستحصل منه امرا بتوقيفهم جميعا . وكان لا بد من بناء قضية واختراع تهمة لكل موقوف ووجدت نفسي محالا الى المجلس العرفي العسكري على وفق المادة 89 أ . وكبست داري وكان من المواد الجرمية المضبوطة كتابان او ثلاثة . وترجمة طلبها احد الناشرين لرواية (انطوان جيكوف) المؤلف المسرحي والقاص الروسي الطائر الصيت المتوفى في 1904. الى جانب مجموعة من الرسائل الخاصة من القاص (ذو النون ايوب) تدور حول نقدي لمؤلفاته . وكان احد المرشحين للنيابة على قائمة المعارضة وقد جيء به من بغداد موقوفا وزج معنا في السجن محالا الى المجلس العرفي العسكري . من بين عشرات بل مئات من الموقوفين كان هناك المرحوم الصديق صالح اليوسفي معتمد الحزب الديمقراطي الكوردستاني في الموصل وهو اذ ذاك بوظيفة الكاتب الاول لمحكمة الموصل الشرعية . وفريق عقراوي العضو في الحزب وهو محام ناشئ.
لم يجد مدير الشرطة تهمة تبرر له القبض على هذين الاخيرين –كما يبدو- فألصق بها تهمة قد تصل عقوبتها الاعدام هي: (تهريب البنزين العراقي الى الصهاينة في فلسطين ) وكان من حسن الحظ ان تغييرا جوهريا طرأ على تشكيل المجلس الغرفي اخرج بموجبه العضو المدني الحاقد وحل محله الاستاذ رشاد عارف وهو واحد من ابرز القضاة واضنه ارتقى الى العضوية في محكمة تمييز العراق عندما نصبه (قاسم) عضوا في مجلس السيادة اثر وفاة خالد النقشبندي في 1961 . ومما اذكره بهذه المناسبة انه وبعد صدور قرار البراءة بحقي, لحق بي الاستاذ رشيد عارف . وقال لي قرأت ترجمتك للرواية واستمتعت بها سنعيدها اليك. ثم طلب مني وثيقة تاريخية تتعلق بوقفية الحاج حسين باشا الجليلي والى الموصل في 1743 . وقد اثيرت قضايا عديدة حولها اثر صدور قانون تصفية الوقف الذري وكان يدري بنحو ما بأني كنت واحدا من المحاميين الكثر في هذه القضية الشهيرة . وسقط (ذو النون الحاج ايوب) من عيني عندما اعلن وهو موقوف خروجه من المعركة الانتخابية متخاذلا .
اجل كان قضاتنا يتحدون الحكومة كلما يتيسر لهم ذلك وتقف الحكومة احيانا مكتوفة اليدين ازاء قراراتهم . واني لاذكر جيدا قضية احد الزملاء المحامين محمد بابان ففي الخمسينيات حبس جواز سفره وحيل بينه وبين السفر الى الخارج لحضور اجتماع سياسي فأقام الدعوى المدنية على وزير الداخلية ونجح في الحصول على قرار يفرض على الوزير الى الانصياع . ما اظن امرا مثل هذا قد حصل او كان يمكن يحصل في تلك العهود التي سميت بعهود الجمهورية .
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012