أنجيلا بوسكوفيتش
تسبّبت الحرب، والعقوبات المطوَّلة، وعجز الحكومة عن تأمين الخدمات الأساسية، بالتدهور التدريجي للمنظومة الصحية التي كانت بحالة جيدة في العراق سابقاً. غالباً ما تعاني المستشفيات التي تمكّنت من الصمود في المعارك، من سوء الصيانة، ومن نقص مزمن في الإمدادات والأدوية والمعدات والطاقم الطبي المتخصص. يؤدّي ذلك إلى مضاعفة التحديات أمام تأمين العناية في الحالات الطارئة، ويحدّ من القدرة على توفير العلاج الطويل الأمد للحالات المزمنة، لا سيما في المجتمعات المحرومة. يشرح صدر الدين حريري، مدير مركز هيلينا الصحي للأطفال المعوّقين وذوي الاحتياجات الخاصة الذي تديره الحكومة في إربيل: “لا أتذكّر أننا واجهنا وضعاً بهذا السوء من قبل”، مضيفاً: “لم نكن قادرين فعلاً على تلبية الاحتياجات قبل هذه الأزمات، والآن نفتقر إلى الإمدادات، ونعاني من الأعباء الشديدة التي تتخطى الإمكانات بسبب تدفق المرضى النازحين من أجزاء أخرى من العراق، فضلاً عن اللاجئين”.
يتم تنظيم الدعم للحالات الطارئة في العراق بموجب خطة الاستجابة الإنسانية – وهي عبارة عن استراتيجية شاملة للعراق وضعها مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، وشركاؤه في العمل الإنساني، والحكومة العراقية – وذلك ضمن مجموعات متخصصة، مثل الصحة، والأمن الغذائي، والتعليم. في هذا الإطار، يعمل الشركاء الدوليون والمحليون في القطاع الصحي مع منظمة الصحة العالمية لتنسيق الخدمات الطبية في العراق وتأمينها. يركّز هؤلاء الأفرقاء على الاستجابة للحالات الطارئة أولاً، لأن الواجب الإنساني يُملي عليهم إنقاذ الأرواح، أما احتياجات الرعاية الصحية فتأتي في المرتبة الثانية. يشرح فَواد خان، منسّق المجموعة الصحية التابعة لمنظمة الصحة العالمية في العراق: “ليس هناك وقت كافٍ لإنشاء منظومات صحية كاملة وبناء القدرات للتعامل مع الحالات الطارئة”، مضيفاً: “الصحة للجميع، إنما لا أحد يمتلك القدرة على تلبية احتياجات الجميع، لذلك نستهدف 60 إلى 70 في المئة من الاحتياجات”، وهذه مهمة هائلة نظراً إلى أن 11 مليون شخص من أصل 36 مليون نسمة في العراق يحتاجون، بحسب تقديرات خطة الاستجابة الإنسانية، إلى شكل من أشكال المساعدة الإنسانية.
يسعى الشركاء في العمل الإنساني إلى الوصول، عن طريق خطة الاستجابة الإنسانية، إلى 6.2 ملايين شخص شديدي الهشاشة خلال عام 2017. لا يؤمّن الشركاء الصحيون استجابة في حالات الطوارئ وحسب، إنما يتولون أيضاً تدريب الطاقم الطبي، بما في ذلك التدريب على الرعاية في حالات الصدمة وعلى الحجر الصحي، وإدارة التعرّض للعناصر الكيميائية، وإدارة تفشّي الأوبئة، بحسب ليز غراندي، منسّقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في العراق. كذلك يدعم هؤلاء الشركاء، بناءً على طلب وزارة الصحة وبحسب التمويل المتوافر، المنشآت الطبية المحلية التي تتخبّط من أجل النهوض بمهامها في ظل الضغوط الشديدة المترتبة عن الأزمات المترابطة، وذلك عبر تأمين الدواء والمعدات الطبية والطاقم المدرَّب. لقد قامت منظمة الصحة العالمية، باعتبارها المسؤولة عن المجموعة الصحية، بتقديم أدوية ومعدات طبية تفوق قيمتها 18 مليون دولار للمساعدة على سد الثغرات التي تظهر في شكل خاص في القطاع العام.
تُعتبَر حصّة القطاع الصحي في الموازنة العراقية، وقدرها ثلاثة في المئة من إجمالي الناتج المحلي، متدنّية بالمقارنة مع بلدان أخرى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث تبلغ النسبة نحو خمسة في المئة. يدفع عدد كبير من العراقيين مبالغ طائلة من جيوبهم لتسديد نفقات الخدمات الطبية في المنشآت الخاصة التي يعتبرونها ذات نوعية أفضل. لكن بالنسبة إلى الأسر غير المقتدرة مادّياً لزيارة العيادات الخاصة المكلفة، تبقى المستشفيات والمراكز الصحية العامة من الخيارات القليلة المتوافرة. تواجه المنشآت الخاضعة لإدارة الحكومة التي تؤمّن خدمات لمؤازرة الاستجابة الصحية في الحالات الطارئة، لا سيما تلك التي تقدّم العلاج للمصابين بإعاقات طويلة الأمد – تواجه إذاً صعوبات لتأمين علاجات مجانية. تحاول المنظمات الإنسانية التعويض عن بعض النواقص. على سبيل المثال، يقوم مركز التأهيل الفيزيائي التابع للجنة الدولية للصليب الأحمر في إربيل، حيث جميع الخدمات مجانية أيضاً، بالتخفيف من بعض الأعباء عن كاهل العيادات التي تعتني بذوي الاحتياجات الخاصة الجسدية، مثل مركز هيلينا، الذي هو جزء من مديرية الصحة العامة في إربيل.
لكن حتى المنظمات الكبرى لها حدودها. على سبيل المثال، في إقليم كردستان، تجد المنشآت صعوبة في الاستجابة لاحتياجات أكثر من 1.4 مليون نازح عراقي ولاجئ من البلدان المجاورة مسجَّلين في الإقليم بحسب الأرقام الصادرة عن حكومة إقليم كردستان في كانون الأول/ديسمبر 2017. إلى جانب تقديم الخدمات للعائلات المقيمة في إقليم كردستان، تؤمّن المنشآت الطبية في محافظة إربيل أيضاً الخدمات للأشخاص الذين نزحوا إلى هناك. فضلاً عن ذلك، يتسبب النزاع بارتفاع في حالات الإعاقة المرتبطة بالحروب، ما يتطلب رعاية في المدى الطويل وتركيب أطراف اصطناعية. نحو ستين في المئة من حالات البتر التي تم استقبالها في المركز التابع للجنة الدولية للصليب الأحمر ناجمة عن الحرب، و36 في المئة منها سببه الألغام، وفقاً لمدير المركز سرود سعاد نافع الذي شرح: “نحاول إرساء توازن بين احتياجات العراقيين الذين أصيبوا ونزحوا في الحرب من جهة واحتياجات المجتمع المحلي من جهة ثانية”. يُقدّم المركز الآن الخدمات لعدد يصل إلى خمسين شخصاً في اليوم، وينتظر الأشخاص المصابون بإعاقات ثلاثة أشهر قبل أن يتمكّنوا من الخضوع لجلسة لتجربة طرف اصطناعي أو جهاز لتقويم العظام.
مؤخراً، عمدت هذه المراكز أيضاً إلى توسيع خدماتها للاعتناء بالحالات المزمنة الطويلة الأمد التي تسبّبت بإعاقات للبالغين والأطفال، والتي يجد القطاع العام صعوبة في تأمين الخدمات اللازمة لها. من الصعب الوقوع على إحصاءات عن الإعاقات في العراق، لكن غسان الألوسي، رئيس فريق الأطراف الاصطناعية وتقويم العظام في مركز الصليب الأحمر الدولي، يشير إلى أن هناك، على سبيل المثال، عدداً مرتفعاً من حالات الشلل الدماغي لجملة أسباب منها حالة المنظومة الصحية في البلاد. فالإصابات بالشلل الدماغي – الناجم عن تعرض دماغ الجنين أو الرضيع أو الطفل للضرر بسبب الصدمة أو الالتهابات – يمكن أن تسجّل زيادة في فترات الحروب وجراء النقص في الأطباء المتخصصين. وفقاً لدراسة أجراها مستشفى الطفل المركزي في بغداد في العام 2011، والذي تُحال إليه حالات الشلل الدماغي من مختلف أنحاء العراق، يتحدّث الأطباء عن أعداد غير مسبوقة من الأطفال الذين يجري سنوياً تشخيص إصابتهم بالمرض. وتعزو الدراسة هذا الأمر إلى تراجع الخدمات في مجالَي طب التوليد والعناية بحديثي الولادة خلال العقود القليلة الماضية.
نظراً إلى النقص في المعدّات وفي الطواقم ذات التدريب التخصصي، تجد المراكز الصحية العامة صعوبة في علاج الأعداد المرتفعة من المرضى. على سبيل المثال، لم يتمكن مركز هيلينا من صنع أطراف اصطناعية قبل حصوله على إمدادات من إحدى المنظمات الدولية، فمديرية الصحة في إربيل عاجزة منذ العام 2014 عن تأمين الجص والمواد البلاستيكية الضرورية لتصنيع هذه الأطراف. يروي يوسف طاهر سلطان، وهو المعالِج الفيزيائي الأقدم عهداً في مركز هيلينا، أن الطاقم الطبي كان يزور في ما مضى الأطفال المعوّقين في منازلهم في المناطق التي يصعب الوصول إليها، قبل أن يردف: “أما الآن فلا نملك حتى سيارات لإرسال المعالجين إلى خارج المركز”. وبما أن العاملين في القطاع الطبي في العيادات في إربيل هم موظفون حكوميون، خُفِّضت رواتبهم منذ العام 2015 بنسبة تصل إلى خمسين في المئة، وجرى خفض ساعات العمل بسبب الأزمات السياسية والمتعلقة بالموازنة في العراق. وفي إطار الاختلاط بين المنظومات الصحية، يبادر أطباء من العيادات الخاصة إلى التطوع في العيادات العامة التي تعاني من النقص في عديدها، ويجلبون معهم خبرتهم في استعمال التكنولوجيات الطبية الأحدث عهداً. في سياق المساعي البعيدة المدى، تناشد اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وهي من أكبر المنظمات الدولية التي تعمل في القطاع الصحي في العراق، وزارتَي التعليم العالي والصحة تحسين مستوى التحصيل العلمي في اختصاصات التأهيل الفيزيائي في البلاد من أجل تلبية الحاجة المتزايدة إلى أشخاص يتمتعون بالمهارات اللازمة لتقديم الخدمات الطبية إلى الأشخاص ذوي الإعاقات.
وسط الأزمات المتقاطعة، تواجه المنظومة الصحية العامة المتردّية أصلاً في العراق، صعوبات لتأمين الدعم المناسب للأعداد المتزايدة من الأشخاص الذين يعانون من إعاقات وأمراض مزمنة. تتوقّف إعادة هيكلة المنظومة الصحية وتطويرها في المدى الطويل على تعبئة حاشدة للموارد في مرحلة ما بعد النزاع. في غضون ذلك، سوف تستمر المنظمات المحلية والدولية في ملء الثغرات في المنظومة القائمة من أجل تأمين حد أدنى من الرعاية للأشخاص الأكثر هشاشة. تشدّد منسّقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ليز غراندي على أن ذوي الإعاقات يقعون مرتَين ضحية الحرب: “إنهم الأكثر معاناة خلال الأزمات. أولاً، لأنهم يجدون صعوبة شديدة، على المستوى الجسدي، في الهروب. وثانياً، لأنهم عندما يصلون إلى مكان آمن، غالباً ما يواجهون تحدّيات في الوصول إلى الخدمات المتخصصة التي يحتاجون إليها”.
* ينشر هذا المقال بالإتفاق مع مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي ٢٠١٤
لقراءة النص الأصلي٬ إتبع الرابط التالي: http://carnegieendowment.org/sada