علي الشرع
نحن مقبلون على انتخابات جديدة للبرلمان من المفترض أن يكون أعضاؤه المنتخبون ممثلين عن الأطياف المختلفة المكوّنة للشعب العراقي أولاً، ومن ثم تنبثق عنه حكومة تعبّر عن طموحات المقترعين في الانتخابات ثانياً.
أما كون البرلمان المنتخب يعبّر عن الطيف العراقي المتنوع فهذا لن نناقشه هنا؛ لأنه شئنا أم أبينا فأن العراق موزّع في الأقل مناطقياً. وكل منطقة تضم كثافة سكانية لطيف معين سيترتشح منه اشخاص ينتمون لهذا الطيف. فلا نتوقع ان ابن البصرة سوف يترشح في الانبار او بالعكس؛ لأن الناس سوف يمتنعون عن منحه أصواتهم لسبب بسيط هو انه على الأقل ان هؤلاء في الانبار لا يعرفون تاريخ هذا المرشح القادم من منطقة أخرى.
وما نريد تسليط الضوء عليه هي تلك الحكومة التي يفرزها البرلمان المنتخب وعلى أي أسس تتشكل؟
في البداية لابد من الاعتراف انه لا مناص من قبول حقيقة واقعة هي ان الأكثرية السكانية لطيف معين تتحكم كثيرا بمن يتولى منصب رئيس الوزراء. وما نسمعه من نغمات تخرج من هنا وهناك عن كتل ذات أغلبية السياسية وأخرى عابرة للطائفية لن تجد لها صدى مسموعا لدى الجمهور، و لن ترى النور ابداً؛ لأن الأعضاء المنتمين للكتل من هذا النوع القادمين من أطياف مختلفة سوف ينحازون بالنتيجة الى طيفهم الذين قدموا منه، وسيتمردون على اهداف وطموحات رؤساء هذه الكتل، وتصوت لطيفها، حتى وان كان الشخص المصوت له ( المرشح لرئاسة الوزراء) لا يتمتع بالكفاءة او البرنامج المقبول منهم لأسباب كثيرة منها ضغوط البيئة التي ينحدر منها أولئك الاعضاء والوسط (الطيف) الذي يمارس فيه حياته اليومية.
اما الحكومات السابقة التي ابتنت على أساس عنوان برّاق اسمه الشراكة الوطنية في الحكم فقد شهدنا فشلها في لملمة ما هو ممزق طائفيا وسياسيا. والسبب هو ان حكومة الشراكة مكوّنة من اشخاص كل منها يحمل تصورات بل ويمكن القول اجندات قد تكون شخصية ولا علاقة لها بتنمية وتطوير المجتمع او حتى تحقيق السلام والامن فيه. وقد رأينا شخصيات كثيرة من اطياف مختلفة وبمواقع مختلفة هوت وتساقطت من جراء الفساد المالي والإداري.
فلم تبق أية قيمة لمفهوم الشراكة وصار عبئا كبيرا على الدولة؛ لأنه حتى يتحقق مفهوم الشراكة عملياً كان لابد من الرضوخ الى التقسيم الطائفي لكل المواقع والمناصب والمؤسسات. وستقع الكتل العابرة للطائفية او الاغلبية السياسية في الفخ نفسه حيث انها تمثل وجه اخر ملمّع للشراكة. ولكن بدلا من ان يكون التوزيع الطائفي للمناصب والمواقع واضح المعالم عبر التقسيم الطائفي للكتل، أصبح هذه المرة مندساً تحت هذا المسمى الجديد حتى وان أدى ذلك فرضاً الى اختفاء الكتل ذات الصبغة الطائفية من الواجهة السياسية. لأنه سيبرز في هذا الحال نمط خفي للتوزيع الطائفي اكثر ضغطاً وقوة، حيث يتحتم على رئيس الحكومة المنبثقة من هذه الكتلة العابرة للطائفية تنفيذ رغبات المنتمين لها والا ستظهر الخلافات الى الواجهة بشدة قد تقود في نهاية المطاف الى تقويض عمل الحكومة تماما، وقد تمتد اثارها السلبية الى الشارع، فنكون بذلك خلقنا مشكلة تؤثر على السلم الاجتماعي بعد ان خرجنا من نفقه المظلم المأساوي قبل أيام بإعلان النصر على داعش.
اذن ما هو الحل المقترح إزاء هذا التعقيد في العملية السياسية الذي تغذيه مصالح متعددة؟
قلنا في البداية انه لا مناص من الإذعان الى قبول حقيقة ان رئيس الوزراء سيكون من نصيب الكتلة السكانية الأكبر، وهو امر لا يغيب عن ذهن من يدعو الى كتلة ذات غالبية سياسية او عبارة للطائفية، وقبول هذه الحقيقة يسقط اهم شعارات هذه الكتل. وبناء على هذا الواقع فالخيار المتبقي لدى الناخب هو ان يحسن اختيار أعضاء البرلمان من خلال صناديق الاقتراع ومن ثم يُحسن البرلمانيون اختيار رئيس الوزراء، لكن كيف نحسن الاختيار؟
نلاحظ انه قبيل الانتخابات تكثر البرامج الانتخابية التي تطرحها الكتل السياسية وان كانت هذه البرامج تقريباً متطابقة ومتكررة فضلا عن انها غير واقعية كونها لا تتناسب مع الموارد المالية المتاحة لتنفيذها. والمفروض انها تقتصر على بنود قليلة تتلاءم مع هيكلية الموازنات الاتحادية.
وحتى تكون مصداقية للمرشحين للانتخابات لابد ان تأتي كل كتلة او مرشح فردي بموازنته الخاصة الرقمية التي يصيغها متخصصون، وليس مجرد أحلام وردية لا علاقة لها بالموازنة من بعيد او قريب. وتعرض هذه الموازنات على الجمهور حتى يتبين الجدي والواقعي منها الذي يمكن تنفيذه فعلاً من تلك الموازنات غير الواقعية. وان كان يصعب على بعض الناخبين فهم تفاصيل الموازنات، لكن الناخب الذكي سوف يختار تلك الموازنات التي تحتوي على بنود قليلة وتستهدف تنفيذ خطط محددة، ويترك تلك الموازنات الكثيرة البنود. وبناء هذه الموازنات قد تعطي للناخب فرصة للكشف عن مدى جدية وخبرة هذه الكتل في تنمية المجتمع وتحقيق أهدافه الاقتصادية. حتى اذا لجأت هذه الكتل الى مراكز استشارية لصياغة موازناتها الخاصة، فأنه لا ضرر منه لكون الكتل الأخرى سوف تطعن بموازنات بعضها البعض قبل الانتخابات، وسيتبين الغث من السمين وستفرز حينئذ الكتلة او المرشح الذي يستحق الترشيح. فتكون المنافسة، حينئذ، على نوعية الموازنة وواقعيتها، لا مجرد شعارات طويلة عريضة، وفارغة احياناً. وبذلك نضمن ان يصعد الشخص المناسب ذو الخبرة الى البرلمان.
ولنفترض الان ان المقترعين اقتنعوا بما عرض عليهم من موازنات، ومنحوا أصواتهم لمن كانت برامجه المتجسدة في موازنته تلبي طموحاتهم، كما انها واقعية من ناحية التنفيذ بعد ان فشل الاخرون وخرجوا من الحلبة، كونهم لم يستطيعوا اقناع الناخب بما عرضوه. هؤلاء المرشحون الذين وصلوا الى البرلمان سوف يختارون رئيس الوزراء الذي ينتمي الى الكتلة السكانية الأكبر، ويمتلك افضل موازنة وبسببها حصد اعلى الأصوات. وهنا سوف نتجاوز فكرة الطائفية، وسنحقق فكرة الغالبية السياسية في نفس الوقت حيث سيتحالف ويصوت البرلمانيون لرئيس الوزراء الذي يطرح موازنة قريبة من موازناتهم، لكن يسبقها، بالطبع، مفاوضات على تضمين البنود التي وردت في موازناتهم التي لا تتطابق مع ما طرحه هو مع موازنته.
اما أعضاء البرلمان الذين لم يتفقوا مع المرشح لرئاسة الوزراء من ناحية تضمين بنود موازنتهم التي تختلف مع خططه فسوف لن يتمكنوا من تنفيذ وعودهم لناخبيهم وسيمضي رئيس الوزراء بتنفيذ ما ورد في موازنته فقط. فتكون الحكومة المشكّلة حكومة موازنة يسهل متابعتها وينتظر الناخبون تنفيذها بدلا من برامج غير واقعية قد تسبب الإحباط للناخب وللديمقراطية. واذا نجحت الحكومة في تنفيذها فسنكون قد دخلنا فعلا في مرحلة البناء والتنمية وسيقود هذا الى تعزيز الديمقراطية وتقويتها.
* أستاذ في الاقتصاد