هكذا عرفت البكر وصدام.. رحلة 35عاماً في حزب البعث

د. فخري قدوري
الدكتور فخري قدوري من أوائل البعثيين في العراق يكشف في كتاب ” هكذا عرفت البكر وصدام.. رحلة 35عاماً في حزب البعث” معلومات عن صدام حسين الذي جمعته به علاقة عمل فرضت ملاقاته يومياً لمدة ثماني سنوات، ويقدم صورة واضحة لشخصية متواضعة في البداية، ومنتهية بتسلط ونكبات متتالية، حسب تعبير المؤلف.
وفي الكتاب أوصاف دقيقة لأحمد حسن البكر وصدام حسين وجوانب من عاداتهما الشخصية لم يطلع عليها غير المقربين منهما.ويصف المؤلف كيفية انتمائه إلى حزب البعث وسيرته الحزبية وتجاربه مع رفاقه في الحزب “بعد أن أصبح الحزب في نهاية الأمر محكوماً من قبل شخص واحد وأصبحت تنظيماته تحت مظلة الإرهاب تنفذ رغبات الحاكم المستبد”.
“الصباح الجديد” تنشر فصولاً من هذا الكتاب نظراً لدقة المعلومات التي سردها الدكتور فخري قدوري حول مرحلة الاستبداد والتفرد وطغيان صدام حسين.
الحلقة 12
الفصل السابع عشر
كان مساء يوم 26 تموز / يوليو عام 1983 يمثل الساعات القليلة المتبقية قبل مغادرتي عمان والوطن العربي برمته من دون عودة . وفي موجة التفكير ومرارة القلب انشغلت في شقتي بترتيب احتياجاتي للسفر فيما كنت القي بين لحظة ولحظة أخرى نظرات الوداع الاخيرة على اسرة الاطفال الخالية وعلى مئات الكتب التي تحتضنها مكتبتي , والكنبات التي شهدت احاديث العروبة والنضال . وفي الدقائق الاخيرة تسلط نظري على خارطة للوطن العربي معلقة في غرفة الضيوف , وعليها شبكة الخطوط البرية وشبكة السكك الحديدية للربط بين البلاد العربية , وتشكلان مشروعين بذلت الامانة العامة لمجلس الوحدة وقتا طويلا وجهداً كبيرًا لاعدادهما .
لم ينصرف نظري عن الخارطة حتى وضعتها في حقيبة السفر لتكون ذكرى العمل الصادق والحب العميق للوطن الكبير وذكرى للسياسات العربية التي مزقت كل هدف قريب وبعيد .
جاءت سيارة الاجرة الى شقتي في الساعة الثانية بعد منتصف الليل ووجهت الى مطار عمان بحقيبتين صغيرتين فقط لجعل سفري طبيعيا.
تركت الشقة وجميع ما فيها من اثاث وكتب ولوازم , وتركت سيارتي في مكانها المعتاد امام الشقة , لتنطلق سيارة الاجرة فيما كانت عمان تغط في نوم عميق ,” لا عينا تراقب ولا شخصا يتابع”. لكن تكرر في المطار المشهد الذي كنت اخشاه واواجهه في كل مرة , اذ تناول مسؤول الامن جواز السفر وفتح شاشة الكومبيوتر وبدأ يقرأ ويقرأ . ثم نادى على زميله واشترك الاثنان في القراءة , ثم ذهبا ودارت مناقشة بينهما انتهت بتسليمي جواز السفر .
وفي مجال التعاون المخابراتي الاردني العراقي لا بد لي ان اشهد ان الاجهزة الامنية الاردنية كانت حذرة في التعامل معي ولم تذهب الى ابعد من حدود معينة لأسباب عديدة في مقدمتها الحصانة الدبلوماسية التي اتمتع بها والحصانة التي منحتها لي اتفاقية مزايا وحصانات مجلس الوحدة الى جانب ما كان لدي من مكانة معروفة في الاوساط الاجتماعية والسياسية الاردنية والرعاية المباشرة من الامير حسن ولي العهد انذاك بحكم عملي الرسمي وعضويتي في “منتدى الفكر العربي” الذي كان يترأسه ويرعى اجتماعاته .
مرحلة حياة جديدة منذ عام 1983
في الساعة الخامسة من صباح يوم 27 تموز/يوليو 1983 اقلعت طائرة الخطوط الالمانية من عمان متوجهة الى مدينة كولونيا في المانيا حيث كان اولادي في انتظاري .
كان بيدي انذاك جواز سفر دبلوماسي جديد صالح لأربع سنوات حرصت على استخراجه في وقت مبكر من السفارة العراقية في عمان ( 4 كانون الثاني/يناير 1983) تجنباً لأثارة أي تساؤلات . كما استخرجت في وقت مبكر ايضا وبصورة لا تثير الانتباه سمات دخول لعدد من البلدان الاوروبية والاميركية . وكانت الغاية خلط الاوراق على المخابرات العراقية فيما بعد حول مكان اقامتي في الخارج .
واتذكر هنا انني قدمت في حينه طلبًا لسفارة الولايات المتحدة الاميركية في عمان للحصول على سمة الدخول والاقامة لفترة غير محددة , بسبب كون اخي الاكبر – وهو طبيب – يقيم هناك منذ نحو ثلاثة عقود من الزمن وحين راجعت السفارة لتسلم سمة الدخول بعد ايام وجد الموظف وريقة على جواز سفري تشير الى رجاء القنصل مقابلتي . واستقبلني الدبلوماسي الاميركي برقة وادب , مقدماً اعتذاره لعدم امكان منحي فترة اقامة غير محددة , لا بسبب يتعلق بشخصي , وانما بحجة الترتيبات الدبلوماسية المتفق عليها بين العراق وبلاده التي تحدد سقف الفترة بثلاثة اشهر .
عند وصولي الى مدينة كولونيا كانت اولى الخطوات التي اتخذتها اتصالي بصديق وفي عمان راجيا منه بيع جميع الاثاث والموجودات بأي ثمن وتسليم الشقة المستأجرة الى صاحبها .
بعد نوم طويل خرجت في اليوم التالي الى ضفة نهر الراين وجلست على احدى الدكات المثبتة (مصطبة) تحت ظل شجرة واخذت اشم نسيم كولونيا , نسمات الحرية والنظام , مستعرضًا في الوقت نفسه ما حصدت من ضياع والام وتضحيات عبر هذا العمر الطويل , ثلاثون عاماً في الخدمة المدنية وخمس وثلاثون سنة رفيقًا حزبيا!
اجلس الآن والقلق يأخذ مني مأخذاً , مطارداً محرومًا من أي مصدر رزق . حاولت تناسي ما فات , ورأيت على مقربة مني أناساً يبتاعون البوظة (الايس كريم) فأبتعت قطعة منها وعدت الى مكاني تحت الشجرة .
اه كم كان جميلا ذلك الشعور حين بدأت اتذوقها وانا بهذا الوضع البسيط الذي كنت محرومًا منه بسبب القيود الرسمية طيلة عقود .
لم تكن الايام التالية سهلة , فقد نقل لي زملاء اوفياء في عمان ان عناصر المخابرات العراقية تبحث عني وتتوعد بملاحقتي – بعد هربي المباغت من عمان –لكني كنت حسبت لهذا الامر حسابه , فضل محل اقامتي – لفترة طويلة – لغزاً حتى لأهلي واعز اصدقائي , واخذت اتجنب السير في شوارع المدينة الرئيسة خشية ملاقاة عناصر السفارة او المخابرات العراقية وحدوث ما لا يحمد عقباه .
لماتقدم بطلب اللجوء السياسي احتراساً من تصاعد حقد النظام في بغداد علي .
وكانت وزارة الداخلية الالمانية ارسلت لي مشكورة موفدا بصورة رسمية لتأكيد حمايتها لي وللاتصال بها فور تعرضي لأي اشكاليات , وثد خفف هذا من روعي بعد ان تحول البعض من الرفاق الى اعداء . بقيت طيلة فترة اللاحقة اكافح من اجل لقمة العيش البسيط في بلاد الغربة . فمع تجاوز العمر 50 سنة تصبح فرص العمل ضئيلة بطبيعة الحال , خاصة في هذا البلد الذي تشكو فيه الطبقة المثقفة من بطالة واسعة . وهكذا اصبحت تكاليف اعاشتي واولادي ونفقات دراستهم شاغلي الاكبر , فلا راتب تقاعدي من العراق , حتى الان , حتى غدوت كل يوم اتذكر كلام شقيقتي المرحومة لي عام 1981 : خذ الحذر يا فخري , جماعتك لا يعرفون صديقاً ولا يرحمون رفيقًا !
في عام 1986 اتصلت بالدكتور سعدون حمادي الذي تجمعني معه زمالة قديمة وعلاقة عمل سابقة متينة . كان حمادي في ذلك العام رئيس المجلس الوطني ويتولى مسؤولية المكتب الثقافي نيابة عن صدام , ويرأس لجنة العناية بشؤون اللغة العربية تابعة لمجلس قيادة الثورة ويرأس لجنة لتكريم المبرزين تابعة للرئاسة اضافة الى عضويته في المجتمع العلمي العراقي . كان اتصالي بحمادي عن طريق الهاتف والرسائل برجاء التوسط لدى صدام لشرح معاناتي وحل مسألة تقاعدي . لم يستطع هذا الرجل عمل شيء ,فكتب لي رسالة مسهبة تحمل شعار “الجمهورية العراقية – المجلس الوطني – المكتب الخاص “جاء فيها ما نصه :
“عزيزي الدكتور فخري , بعد التحية والتقدير والاحترام . تسلمت رسالتك الاخوية الرقيقة المؤرخة في 9/5/1986 …. اود ان اوضح لك امرًا ما يزال في نفسي منذ حدوثه وهو انك سبق ان تحدثت معي هاتفياً عن امر يخصك وانني لم استطع ان اسهم بأية معاونة فيه.
لقد كان جوابي على الهاتف صادرًا لا عن عدم التقدير ولا عن عدم اللامبالاة – ويشهد الله على ذلك – بل عن عدم الاقتدار على عمل شيء ازاء ما تحدثت عنه فقد كانت العين بصيرة واليد قصيرة كما يقال والله على ما اقول شهيد”!
هكذا لم يستطع حمادي عمل شيء لقضيتي وهو المقرب والمحبب من صدام .
في عام 1989 حاول عبد الجبار عمر – السفير العراقي في المانيا انذاك والمعروف بنفوذه الواسع في اوساط الحكم – التوسط لدى بغداد لحل مسألتي المعلقة . وذهبت جهوده ايضا في مهب الريح , ولم تجب بغداد حتى على رسائله.
ثم بادر بعدها السفير العراقي اللاحق الدكتور عبد الرزاق الهاشمي – وهو من المعروفين ايضا بصلاته الوثيقة بقمة النظام – ووعد بحل مشكلة التقاعد , وقال لي بثقة عالية ان كتب هو الى بغداد فلا بد ان يحصل على جواب . وكتب بالفعل ولكنه لم يحصل على أي رد!
وهكذا بقيت مسألتي معلقة طيلة الفترة , لا يتمكن قانون او نظام حسمها , ولا يتمكن شخص وسيط من حلها , كل ذلك بسبب نقمة فرد متسلط واحد !

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة