جوزيف ستيجليتز
الحائز على جائزة نوبل التذكارية في علوم الاقتصاد لعام 2001.
نيويورك ــ قبل خمسة عشر عاما، نشرت كتاب «العولمة ومنغصاتها»، وهو الكتاب الذي حاولت فيه شرح الأسباب وراء ذلك القدر الكبير من الاستياء وعدم الرضا إزاء العولمة في الدول النامية. والأمر ببساطة شديدة أن كثيرين تصوروا أن النظام كان «مرتبا عمدا» للعمل ضدهم، وأن اتفاقيات التجارة العالمية كانت ظالمة بوضوح.
والآن، حركت حالة السخط من العولمة موجة من الشعبوية في الولايات المتحدة واقتصادات متقدمة أخرى، ويقود هذه الموجة ساسة يزعمون أن النظام ظالم لدولهم. ففي الولايات المتحدة، يصر الرئيس دونالد ترامب على أن المفاوضين التجاريين عن أميركا هُزِموا في مواجهة نظرائهم الذين تفاوضوا باسم المكسيك والصين.
كيف إذن تحول شيء كان المفترض أن يعود بالنفع على الجميع، في الدول المتقدمة والنامية على حد سواء، إلى موضع للذم والسباب في كل مكان تقريبا؟ وكيف يمكن لاتفاقية تجارية أن تكون ظالمة لكل الأطراف؟
يرى أولئك في الدول النامية أن مزاعم ترامب ــ مثلها كمثل ترامب ذاته ــ مثيرة للضحك. فقد كتبت الولايات المتحدة في الأساس قواعد العولمة وخلقت مؤسساتها. وفي بعض هذه المؤسسات ــ صندوق النقد الدولي على سبيل المثال ــ ما تزال الولايات المتحدة تتمتع بحق النقض، على الرغم من تراجع دور أميركا في الاقتصاد العالمي (وهو الدور الذي يبدو ترامب عازما على تقليصه رغم ضآلته).
أما من منظور شخص مثلي، كان يراقب المفاوضات التجارية عن كثب لأكثر من ربع قرن من الزمن، فمن الواضح أن المفاوضين التجاريين الأميركيين حصلوا على أغلب ما كانوا يريدون. وكانت المشكلة في ذلك الذي كانوا يريدون. فقد وضعت الشركات أجندة المفاوضين خلف أبواب مغلقة. كانت أجندة مكتوبة بواسطة ولصالح شركات كبيرة متعددة الجنسيات، على حساب العمال والمواطنين العاديين في كل مكان.
في واقع الأمر، كثيرا ما يبدو الأمر وكأن العمال الذين رأوا أجورهم تنهار ووظائفهم تتلاشى كانوا مجرد أضرار جانبية ــ فهم ضحايا أبرياء ولكن لا يمكن تجنب الإضرار بهم في مسيرة عنيدة إلى التقدم الاقتصادي. ولكن هناك تفسير آخر لما حدث، وهو أن أحد أهداف العولمة كان إضعاف القدرة التفاوضية التي يتمتع بها العمال. وكانت الشركات تريد عمالة أرخص، أياً كانت طريقة الحصول عليها.
يساعدنا هذا التفسير في شرح بعض الجوانب المحيرة للاتفاقيات التجارية. فلماذا على سبيل المثال تنازلت الدول المتقدمة عن واحدة من أكبر مزاياها، سيادة القانون؟ إن الشروط الواردة في أغلب الاتفاقيات التجارية الأخيرة تعطي المستثمرين الأجانب من الحقوق أكثر من تلك التي تقدمها للمستثمرين في الولايات المتحدة. فهم يعوضون على سبيل المثال إذا تبنت الحكومة تنظيما يلحق الضرر بصافي دخولهم، مهما كان ذلك التنظيم مرغوبا ومهما كان الضرر الذي قد تحدثه الشركات في غيابه عظيما.
هناك ثلاث استجابات للسخط العالمي على العولمة. يتلخص الأول ــ ولنطلق عليه مسمى استراتيجية لاس فيجاس ــ في مضاعفة الرهان على العولمة كما كانت تُدار على مدار ربع القرن الماضي. ويستند هذا الرهان، مثله في ذلك كمثل كل الرهانات على سياسات ثبت إخفاقها (مثل اقتصاد تقاطر الفوائد إلى الأسفل)، إلى الأمل في نجاح نفس السياسات بطريقة أو أخرى في المستقبل.
وتتمثل استجابة ثانية في «الترامبية»: أن تقطع نفسك عن العولمة، على أمل أن يؤدي ذلك على نحو ما إلى إعادة عالَم ولى ومضى. غير أن تدابير الحماية لن تُفلِح. فوظائف التصنيع آخذة في الانحدار في شتى أنحاء العالَم، وذلك ببساطة لأن نمو الإنتاجية تجاوز وتيرة نمو الطلب.
وحتى لو عاد التصنيع، فلن تعود الوظائف. ذلك أن تكنولوجيا التصنيع المتقدمة، بما في ذلك الروبوتات، تعني أن الوظائف القليلة التي ستنشأ في المستقبل تتطلب مهارات عالية وسوف تكون في مواقع مختلفة عن مواقع الوظائف المفقودة. ومثله كمثل نهج مضاعفة الرهان، يبدو أن هذا النهج محكوم عليه بالفشل، وهذا من شأنه أن يزيد من حدة السخط الذي يشعر به من تُرِكوا وراء الركب.
وسوف يفشل ترامب حتى في تحقيق هدفه المعلن المتمثل في خفض العجز التجاري، والذي يحدده التفاوت بين المدخرات المحلية والاستثمارات. والآن بعد أن نال الجمهوريون وطرهم ونجحوا في استنان التخفيض الضريبي لصالح أصحاب المليارات، فسوف تهبط المدخرات الوطنية ويرتفع العجز التجاري، نظرا للزيادة في قيمة الدولار. (يتحرك العجز المالي والعجز التجاري معا بشكل وثيق عادة، حتى أن الخبراء يطلقون عليهما وصف «العجز التوأم»). وقد لا يروق هذا لترامب، ولكن كما يتبين له ببطء الآن، هناك بعض الأمور التي لا يستطيع حتى الشخص الذي يشغل أقوى منصب في العالَم أن يسيطر عليها.
أما الاستجابة الثالثة فهي الحماية الاجتماعية من دون اللجوء إلى تدابير الحماية التجارية، وهو النهج الذي تبنته دول الشمال الصغيرة في أوروبا. فقد أدركت أنها باعتبارها دولا صغيرة لابد أن تظل منفتحة. ولكنها أدركت أيضا أن بقاءها منفتحة من شأنه أن يعرض العمال للخطر. وعلى هذا فقد لجأت إلى إنشاء العقد الاجتماعي الذي ساعد العمال في الانتقال من الوظائف القديمة إلى وظائف جديدة ومد لهم بعض العون في الفترة الانتقالية.
الواقع أن دول الشمال الأوروبي مجتمعات ديمقراطية عميقة، وقد أدركت لهذا السبب أن العولمة لن تستمر ما لم ير معظم العمال أنها تعود بالفائدة عليهم. كما أدرك الأثرياء في هذه الدول أن الفوائد ستكون كافية لكي تعم الجميع إذا ما عملت العولمة كما ينبغي لها.
كانت الرأسمالية الأميركية في السنوات الأخيرة تتسم بجشع جامح ــ وتؤكد الأزمة المالية التي اندلعت في عام 2008 هذه الحقيقة بوضوح. ولكن كما أظهرت بعض الدول، فإن اقتصاد السوق ربما يتخذ أشكالا تساعد في تخفيف تجاوزات الرأسمالية والعولمة، وتوفر في الوقت نفسه نموا مستداما ومستويات معيشية أعلى لأغلب المواطنين.
وبوسعنا أن نتعلم من هذه النجاحات ماذا يتعين علينا أن نفعل، تماما كما نستطيع أن نتعلم من أخطاء الماضي ما لا ينبغي لنا أن نفعل. وكما بات واضحا، إذا لم نتمكن من إدارة العولمة على النحو الذي يجعل فوائدها تعود على الجميع، فمن المحتم أن تزداد حِدة ردود الفعل العنيفة ــ من قِبَل الساخطين الجدد في الشمال والساخطين القدامى في الجنوب.
عولمة السُخط
التعليقات مغلقة