عندما قرر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور الانتقال الى بغداد. واتخاذها عاصمة لدولته ، أمر المهندسين والبُناة ، بأن تكون عاصمة الخلافة مدوّرة ومسوّرة لحمايتها من طمع الطامعين ، فكانت محاطة بسور يصل ارتفاعه الى نحو ٣٥ ذراعا وجعلوا لها اربعة ابواب خارجية وثمانية اخرى داخلية ، ونتيجة لهذه التحصينات الشديدة فقد اطلق المنصور على عاصمته الجديدة اسم «مدينة السلام»
وبطبيعة الحال وبسبب تطور اساليب الحروب ، لم تعد تلك الاسوار ذات فائدة ، فالمنجنيق والسيف والرمح والحصان قد تلاشت تماما ، لتحل محلها الاسلحة الحديثة التي لا يمكن تصور حجم الدمار الذي تسببه تلك الاسلحة ، ومعنى هذا ان الاسوار لم تعد مفيدة في حماية المدينة وأهلها ، فكان لابد من البحث عن اساليب جديدة يمكن من خلالها مواجهة الاسلحة الفتاكة التي تأتي من الجو والبر والبحر حتى ليشعر الانسان ان زلزالا ضرب المنطقة ، ولهذا السبب لم يتصور الكثيرون منا للوهلة الاولى ان ما تعرضت له بغداد ليلة ١٢ تشرين الثاني ٢٠١٧ هو هزة ارضية بل قالوا ان تفجيرا نوويا قامت به احـدى دول الجـوار ليتسبب بكـل ذلك الرعـب للناس !! ..
وبعد عام ٢٠٠٣ ونتيجة لاشتداد الموجات الارهابية التي تستهدف ابناء بغداد ، لجأت الجهات الامنية الى عزل مناطق العاصمة عن بعضها الاخر بجدران كونكريتية اكثر ارتفاعا وحصانة من سور الخليفة المنصور ، وبلا شك ان الاسوار الجديدة تسببت بخنق الجمال الاخاذ للعاصمة ولم يعد بإمكاننا الاستمتاع بدجلة الخير وبساتينها لأنها اصبحت خلف الجدران ، كما شعر الناس بالاختناق وباتوا غير قادرين على رؤية « وجه الله» كما كانت تعبر جدتي !.. ولعلنا نعطي الحق للحكومة في اتخاذ اي اجراء من شأنه حماية الناس وإفشال المخططات الارهابية ، على ان لا يستمر الحال كما هو عليه ، فالإرهاب هو ايضا يعمل على تطوير اساليبه في الاستهداف التي تمكنه من تحييد الجدران والوصول الى اهدافه لاسيما في المناطق الرخوة مثل الاسواق والمدارس والتجمعات السكانية ، كما تسببت تلك الجدران بخلق ازمة سير مستمرة في شوارع العاصمة نتيجة غلق شوارع وساحات مهمة ، مع عدم ايجاد البديل المناسب ، واستمر هذا الحال لسنوات ، الى ان بدأ الوضع الامني بالتحسن التدريجي ، ليتم الشروع بفتح بعض من الشوارع المغلقة ، وهي اجراءات مهمة وان لم تسهم في حل المشكلة إلا بحدود بسيطة ، فيما بقيت الجدران الكونكريتية شامخة في الكثير من مناطق بغداد وإحيائها ، وخصوصا امام المباني الحكومية والمراكز المهمة ، مع الاستمرار في تطبيق اسلوب القطع المفاجئ للطرق ونشر السيطرات بنحو غير مدروس احيانا ، وهذا الاسلوب هو ايضا لطالما تسبب في ازعاج المواطنين وعلى وجه الخصوص في فصل الصيف اذ الحرارة تتجاوز نصف درجة الغليان !..
لهذا نقول ، الان وقد تحررت ارضنا بفضل بطولة العراقيين وانتهى داعش في العراق ومع الاستقرار الملحوظ الذي تشهده بغداد وبقية محافظات العراق ، أما آن الاوان لرفع جميع الجدران لتعود عاصمتنا تزهو بجمالها الاخاذ ?، اذ يفترض عدم الابقاء على اي طريق مغلق، ورفع الاسوار التي تحيط بالمباني الحكومية والاستعاضة عنها بجهد استخباري فاعل ، فليس عدلا ان يختنق كل هذا الجمال خلف أسوار لم تعد ذات جدوى ، كما اننا اشتقنا لدجلة ونريد ان نحييه عن قرب وليس من وراء الجدران او من بعيد كما فعل الجواهري الكبير.
بغداد تعاني من الاختناق الدائم نتيجة اسوارها وتضخم سكانها ، فهي تريد ان تناجي سماءها وليلها والقمر وشطآنها من دون حجاب ، فاسمعوا صوتها وحققوا امنيتها.
عبد الزهرة محمد الهنداوي
بغداد .. النهر والجدران
التعليقات مغلقة