ساري موسى
على عكس «الحديقة الخَرِبة»، روايته الأخرى المنقولة إلى العربية، التي استعمل فيها جملا مكثّفة وأسلوباً شعرياً مقتصداً بالكلمات غنياً بالصور والعاطفة، يسترسل الروائي المكسيكي خورخي فولبي (1968) في «سجل الخديعة» الصادرة عن منشورات الجمل في كتابة رواية اعتيادية طويلة، يبتعد من خلالها مجدداً عن الخيال والأسطورة اللتين أدخلهما على القصة المؤثرة للمرأة العراقية ليلى التي فقدت عائلتها، ويعود للالتزام بروحيّة جماعة «الكراك» الأدبية التي أسسها في المكسيك لتقطع مع الواقعية السحرية لجيل كارلوس فوينتس والمتأثرين به.
الهدف الأول للراوي، توضيح أسباب حدوث الأزمة الاقتصادية وفضح المتسببين بها من «النصّابين» الذين يعترف أنه واحد منهم. فضحهم بأسمائهم الحقيقية وأسماء شركاتهم، وبنشر صورهم أيضا. ومن أجل الإيضاح التام يعود إلى أزمات عالمية سابقة كأزمة أزهار التوليب في القرن السابع عشر، وأزمة قسائم البريد في سنة 1919 التي تسبب بها كارلو بونزي، كما يدخلنا أيضا في شرح بعض العمليات الاقتصادية والمصرفية، التي سيجد أولئك الذين لا يقرأون الصفحة الاقتصادية في الجرائد بعض الصعوبة في فهمها، لكنه أمر لا بد منه لإفهام القراء ما الذي كان يجري، وأدى لاحقاً إلى وقوع الأزمة في أكتوبر/تشرين الأول عام 2008، التي ابتلعت المدخرات وتسببت في فقدان الكثيرين لأعمالهم في العالم. وهنا تكمن أهمية هذا النوع من الروايات؛ بتناوله أحداثاً عالمية لا بالتحليل المختص الضيق الذي نشاهده في نشرات الأخبار، بل بتضمينه قالبا أدبيا يسهم في وصوله إلى عدد أكبر من الناس.
يعطي فولبي لبطل الرواية اسمه ذاته، وما نقرؤه على امتداد الصفحات هو السيرة الذاتية للبطل منذ ما قبل تعرف والديه على بعضهما. (خ. فولبي) هو في الرواية موظف إداري تنقّل في العمل بين عدد من الشركات المالية الكبرى في وول ستريت مثل جي بي مورغان ولونغ تيرم كابيتال منجمنت، وارتقى في المناصب إلى أن أسس صندوقه الائتماني الخاص، وبدأ بتشغيل أموال المستثمرين بفوائد عالية فاقت ما يعطيه أصحاب بقية الصناديق، إلى أن اختلس 15 مليار دولار وفرّ مع وقوع الأزمة إلى مكان مجهول. يشرح فولبي كيفية حدوث الأزمة ببساطة، تلك الفقاعة التي نفخها أرباب وول ستريت إلى أن انفجرت في وجوههم: إذا تم منح كل مستثمر 20% مثلا كل شهر من قيمة أمواله المودعة، سوف تتزايد أعداد المستثمرين الذين يُعطَون عملياً بعضاً من أموالهم التي سوف يودعون فوقها باستمرار، لأن تلك المؤسسات أوهمتهم أنها ذات رأس مال ضخم، وهي في الحقيقة لا تملك إلا أموالهم. هذه هي عملية «الائتمان التبادلي الافتراضي» التي قادت باستنساخها من قبل مؤسسات وول ستريت إلى انفجار الأزمة المالية. لم يجهل مديرو هذه المؤسسات الإمكانية القريبة لوقوع الأزمة، وكان انهيار مؤسسة لونغ تيرم نذيراً لوقوعها ومقدمة لها، كان بإمكانهم تفاديها بحسب فولبي (والمقصود دوماً الراوي لا الكاتب)، لكنهم تجاهلوا كل الإشارات واستمروا بجمع الأموال.
الخديعة الأخرى الحاضرة في الرواية، خديعة عائلية أخفت من خلالها الأم عن ابنها حقيقة والده الذي توفي قبل ولادته. نوا فولبي كان موظفاً في وزارة الخزانة الأميركية وقد فصل من وظيفته في السنوات الأولى من الحرب الباردة برغم الخدمات الكبيرة التي قدمها خلال الحرب العالمية الثانية، ومساهمته في التحضير لمؤتمر بريتون وودز وفي تأسيس صندوق النقد الدولي، وذلك بسبب اتهامه مع عدد من الموظفين الكبار الآخرين بأنهم شيوعيون وعملاء للاتحاد السوفييتي، في ما يشكل اختراقا سوفييتيا خطيرا في صلب المنظومة المالية والاقتصادية الأميركية. وقد تأكد فولبي من ذلك عن طريق عدد من المخبرين الذين تعاقد معهم، آخرهم عميل سابق في المخابرات السوفييتية، وقد أخفت الأم هذه الحقائق عن ابنها ليس لأنها لم ترد أن يحس بالخجل من فعلة أبيه، بل لأنها كانت هي أيضا عضواً أساسياً في الحلقة الشيوعية وقد ساعدت نوا في دخولها.
يحضر في الرواية نمط العيش الذي يحياه الأغنياء في حيواتهم المتفلتة من كل الضوابط، والنزوات والمشكلات ودمار العائلات الناتج عن ذلك؛ العلاقات المثلية التي دخل فولبي في عدد منها، والتي استفاد من واحدة منها للحصول على وظيفة جيدة، وآخرها وأكثرها جموحاً مع فيكرام شريكه في تأسيس صندوقه الائتماني. لي، المؤرخة الشابة التي استعان بخدماتها للكشف عن حقيقة والده، والتي صارت زوجته الثانية، تدخل كذلك في علاقة مثلية مع صديقتها، وكلا الزوجين يعلم بعلاقة شريكه من دون أن يمانع. يرضخ فولبي لمطالبات لي له بدعم جمعيات الرفق بالحيوان وجماعات منكوبة من السكان الفقراء في أفريقيا، وهو يغدق في دعمه ورعايته للفرق الموسيقية والأوبرالية التي يعشقها إلى حد أنه يعطي لعناوين الفقرات مصطلحات أوبرالية مثل آريا، ترتيل، جوقة، ثنائي، ثلاثي… وكل ذلك من أموال المستثمرين المودعة. ابنته سوزان يحرمها زوجها من رؤية ولديها بعدما وجدها في السرير مع رجل آخر، ابنه إسحق عثر عليه ولداه متدلياً من السقف بعد أن شنق نفسه.
كتب فولبي روايته هذه باللغة الإنجليزية لا الإسبانية، وهذا ما أوضحه الناشر على الغلاف بإيراده اسم المترجم غوستابو إثكييردو الذي نقلها إلى الإسبانية، فيما تولى رفعت عطفة نقلها إلى العربية، كأن الكاتب ذا الميول اليسارية أراد أن يفضح أكبر نظام رأسمالي في العالم بلغته، مباشرة من دون وسيط.