«حرفٌ من ماء».. نمطية أمْ اختلاف ؟

القسم الثاني
عباس السلامي

من البديهي القول بأنَّ النص يولدُ من رحم فكرة ، الفكرة يبتدعها الشاعر و يؤثثها بالصور .ضمن سياق ، يتحتّم على الشاعر أنْ يجعلهُ متسقاً معها – وهنا يظهر مدى مقدرة الشاعر أو إخفاقه، نمطيته أو اختلافه -، وقد يحدث أنْ يقع الشاعر في التكرار لتسويق فكرته بأكثر من صورة ، حيث يعتقد إنَّ فكرته لا تكتمل إلا بصور متعددة ، أو يعيد استنساخ ذاته الشاعرة ، بمعالجات مختلفة لصور شعرية وأفكار قد تناولها في نصوص سابقة من قبل، وربما سنجدها في نصوص لاحقة !لا أريد الخوض في تلك المعالجات، لأن الخوض هذا سوف يبعدنا عما قصدته في الخطاب المكرر آنفاً.كما أنَّ أغلب النصوصَ لا غموضَ فيها وأقصد الغموض المفضي إلى تعدد القراءات ، فكلّما تعددت قراءات النص ، ازدادَ التفاعل معه ، وتولّدت مدلولات كانت خافية بدءاً، لما يحمله النص من الرؤى والأفكار. وهذا يعني إنَّ الغموض في الشعر هذا المفضي إلى التأويل والتعدد في القراءات سيكون بمنزلة الجسر الذي تعبر عليه تلك الأفكار صوب المتلقي لتجعله إما يميل مرغماً أو طواعية إلى النص ، وهذا لم يحصل على الرغم من أنّ الشاعر أشار وأكد لاحتياجه لهذا الغموض حيث قال :((يحتاج الشعر الى الغموض والترميز. والقلب يحتاج الى البكاء والصراخ وشق الثياب . ما فائدة الشعر إذن؟ص46 )) ،
وانْ عدنا للسؤال الذي استشعرتهُ أجدُ له إجابة – وإنْ كانت غير كافية – إلا أنها ربما تؤشر إلى أنَّ مثل هذا الابتعاد عادةً ما يحصل في تجارب شعرية كثيرة لشعراء انفردوا في ثيمة معينة بعد أنْ جعلوها سمةً لكتاباتهم الشعرية،ولبنة الأساس لبناء النصوص وهنا مع أديب كمال الدين تنساب الموضوعة تلك وتتعاظم إزاء حالة الوعي الفكري لديه، إضافة لثقافته الغنية التي اكتسبها في منفاه ، اغترافه من تراث الأمة وتزوده من تجارب شعرية معاصرة ، ليصل بنا – فيما يكتب – إلى ما يتمناه ! ،فما ترتَّبَ على حالة الاغتراب من ردة فعل كان هدفها تذليل المنفى ، أو تطويعه كحالة يمكن استثمارها، فحال الشاعر في المنفى، ليس كحال الشاعر المنفي في وطنه !تلك المكتسبات هي التي أرغمت الشاعر على انتهاج «الحروفية المعرفية» بقدر من التكرار إنْ جازَ لنا التعبير.
((الفرح /فاء،
والحب / حاء
والسعادة سين ساعة أفعى تفح تفح ص76))
(( في ميم الماء سر، أعظم من سر ميم الموت ص119))
(( في ميم الماء لوعة))
(( قصيدتي لا يفهمها من لم يمسك بحاء الحرمان،ويضعها جمرة على نقطة باء الحب))ص116
فهناك تحولات كثيرة تجتاح الشاعر في منفاه تتعلق في اضطراب الرؤى وارتباك الأفكار، لكنَّ الشاعر الملتزم يتمكن من التصدي لها لكي لا تخلّ في معتقداته وقيمه، ((ثمة شعراء يكتبون قصائدهم بدمائهم وآخرون يكتبونها بالدموع ، وآخرون يكتبونها بالخمرة ،أنا كتبت قصائدي بدمي،،لأنه لا يستطيع أن يكتبها بشيء آخر ص17))وفي السياق نفسه ،وعبر النص « أُغرِقُ ذاكرتي في الماء ص106» إذ يقول : (( المنفى خدعة إضافية، من خدع الوطن التي لا تنتهي )) و( في المنفى ليس هناك من مرآة لترى نفسك، ولذا صار الشاعر يتمرأى في حروفه ليل نهار)
ينتقل بنا ليجسد تلك التحولات الضاغطة على مسيرة الشاعر وهو يتجرع اضطرابات الروح الشاعرة في المنفى .الذي هو نتاج ما آل إليه الوطن !!
***
محاكاة لرموز رحلت وأخرى مازالت حاضرة، الهدف منها استحضار الغائب، واستدعاء الحاضر، لاستنطاقه واستخلاص العبرة منه ، عبر إسقاط ما يميز الرمز هذا ، وربطه بواقعنا المعيش!!
((في طفولتي ضعتُ في السوق ، ضعتُ ألف عام ، حتى أعادني كلكامش إلى نقطتي وحرفي ، وربما أعادني انكيدو))
ويقول :
(( قال المعري: خفف الوطء.
وقال الخيام: اشرب الكأس.
وقال جبران: أعطني الناي وغنّ.
أما أنا فقلت : الحرف كأس والحرف ناي ، فخففوا من وطأة القول أيّها الشعراء)
في سرده الشعري! لا يحتكم أديب إلى ايدولوجية أو إلى فكرة بعينها ، لتضغط أو تتدخل في كتابة نصه ! وإن كانت الحر وفية سمة المتصوفة في تاريخ شعريتنا العربية ، إلا انه لم يأخذ بها كما أخذوا بها من قبل، بل أراد بها إعطاء مساحة لحرفه كي نستوعب ما حدث أو يحدث ، نروّض الأحقاد ونتلمس الحب، فهو باعتقاده إنَّ الحبَّ يُعد الشفرة التي يفكّ بها سر انطفاء العالم .
في نص المقطع الأخيرص132 حيث يقول : (( الغرابُ علَّمني بحقده الأعمى سرّ الحُبّ، علّمني أن أرفع يدي عبر الغيم إلى خالق الحاء ، فيستجيب لدمعتي الحرّى، وأنْ أضع يدي على قلبي فتهبط الباء قصيدة حب صوفيّة الأسرار )) فمن الغراب الذي عدّه الشاعر رمز الحقد والخيانة يهتدي إلى الحب فيتعلمهُ ((في الغابة الكونية ، لم يستطع الغراب أن يتعلم الصلاة أبداً، إذ كان يعاني من عقدة خيانته الأزلية لنوح وللناس وللسفينة ص132))
انه لأمر صعب بالتأكيد أن تستخلص الحب من الحاقدين ، لكن الصعاب تتذلل أمام ما سنجنيه من الحب .فالحياة قاسية بلا حب كما يشير الشاعر ويؤكد على ذلك بقوله (( الحياة مملة حدّ اللعنة ، لا علاج لها إلا بالحب ص30))
شاعر الحرف، يثير هذا المسمّى الكثير من التساؤلات ، على افتراض ألا أحد باستطاعته أنْ يجيّر الشعر ويدخلهُ في منطقته – حتى لو اكتسبت تلك المنطقة المنتقاة سعتها، وخصوبتها من الحروفية – فهي بالنتيجة تكون ضيّقة، و خصوبتها لا تعني أنها تطرح كل الثمار!، تحدّيات كثيرة تفرضها اللغة ، لا تَحدّ منها إلا مقدرة الشاعر على تطويع الحروف بصفته شاعرها! وهذا لا يكفي إنْ لم يكن للشاعر رؤى – كما أسلفت -تمكّنه من الذهاب أبعد من طوق الحروف كي يجسدَ الأشياء التي لا تُحَس وإن كانت شاخصة للعيان، كما يشير إلى ذلك بوضوح في نص «كنتَ وهماً فأصبحتَ حرفاً ص75»
((رسَمَتْ إبرةُ عقارب الساعة حظَّكَ بقليلٍ من الأخضر الملآن بالفرح، وكثيرٍ من الأسْودِ المتفحم. لا تحزن كثيرا فربما كانت إبرةُ عقارب السَّاعة أخف وطأة من أظافر القدر أو أصابع الماضي ))
فالشاعر إذن باستطاعته أنْ ينقلنا إلى الأشياء البعيدة، يوصلنا بالشعر إليها قبل أنْ نصلها ونتحسسها ونتلمسها صورةً ومعنى. ويتم هذا عبر نصوص «بعينها» عند أديب كمال الدين بجرعات عرفانية يزرق بها روح المتلقي كي يطمئنهُ ويهدّئ من روعه، وليسحبه إلى حروفيته في رحلة لا تنتهي .
يونيو / حزيران/2017
بابل/ العراق

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة