هشام المدفعي
اعتادت الصباح الجديد ، انطلاقاً من مبادئ أخلاقيات المهنة أن تولي اهتماماً كبيرًا لرموز العراق ورواده في مجالات المعرفة والفكر والإبداع ، وممن أسهم في إغناء مسيرة العراق من خلال المنجز الوطني الذي ترك بصماته عبر سفر التاريخ ، لتكون شاهداً على حجم العطاء الثري والانتمائية العراقية .
واستعرضنا في أعداد سابقة العديد من الكتب والمذكرات التي تناولت شتى صنوف المعرفة والتخصص وفي مجالات متنوعة ، بهدف أن نسهم في إيصال ما تحمله من أفكار ورؤى ، نعتقد أن فيها الكثير مما يمكن أن يحقق إضافات في إغناء المسيرة الإنمائية للتجربة العراقية الجديدة .
وبناءً على ذلك تبدأ الصباح الجديد بنشر فصول من كتاب المهندس المعماري الرائد هشام المدفعي ، تقديرًا واعتزازًا بهذا الجهد التوثيقي والعلمي في مجال الفن المعماري ، والذي شكل إضافة مهمة في مجال الهندسة العمرانية والبنائية وما يحيط بهما في تأريخ العراق .
الكتاب يقع في (670) صفحة من القطع الكبير، صدر حديثاً عن مطابع دار الأديب في عمان-الأردن، وموثق بعشرات الصور التأريخية.
الحلقة 26
الفصل الثاني عشر
من مشاريع تطوير بغداد
إسكان السيدية ، شارع الخلفاء ، شارع حيفا ، تفجير محطة إذاعة بغداد , مركز صدام للفنون , من يسكن عمارات من 15 طابقاً ؟ , إسكان السياسيين السوريين , الأعمال الفنية في المحلات والعمارات ، عبد الوهاب المفتي ومنصب الوكيل الفني , مهام خطيرة نقل مدينة البصرة غرباً , إنشاء ميناء الفاو الكبير ., توقف الصرف بالدولار، جزيرة بغداد السياحية ، صيانة الدور التراثية ، تطوير شارع أبي نؤاس
في هذا الفصل ، نواصل حديث الذكريات عن مشاريع تطوير مدينة بغداد في ثمانينات القرن الماضي ، وهي الفترة الذهبية التاريخية والجادة لخدمة العاصمة بغداد الجديرة بالتطوير والتأهيل .
مشروع إسكان السيدية
حصل رفعة الجادرجي على موافقة أمين العاصمة على إجراء تغيير للتخطيط العام لهذا المشروع السكني الكبير الذي يضم 2000 وحدة سكنية مع جميع الأبنية السكنية والخدمية وشبكات البنى التحتية بعد ان تم تصميمه وتوقيع عقد التنفيذ مع المقاول بأسلوب تصميم يختلف. وعهد الى شركة TAC الاميركية وضع التخطيط الجديد بما ينسجم مع المتطلبات الحديثة في تخطيط المدن . كما وضعت هذه الشركة تفاصيل جديدة للالواح مسبقة الصنع ، بحيث تُبنى الوحدة السكنية باقل عدد من القطع مسبقة الصنع ، مما يقلل في كلفة البناء والجهد ، مع بقاء المساحة المخصصة للوحدة السكنية .
قدمت شركة TAC التصاميم النهائية ، بأن يتكون المشروع من مجموعات سكنية تقع على المحور الخارجي ، تضم كل مجموعة ست عمارات بثلاثة طوابق ، كل عمارة تتكون من ست شقق من ثلاث غرف نوم . تقع جميع هذه المجموعات ( المحلات ) داخل الطريق الخلفي الخارجي الذي تتفرع منه طرق الى داخل المجموعات . ومحور وسطي يضم حدائق وممرات وطرق سابلة مختلفة ، تؤدي الى رياض الاطفال والمدارس وابنية الخدمات .
شيد معمل البناء الجاهز لهذه الشقق المكونة من الالواح الكونكريتية مسبقة الصنع . وكانت كل شقة تتكون من ستة قطع رئيسية ، هي الجدران الامامية والخلفية والجدران الداخلية والسقوف . لقد صمم المعمل لإنتاج وتركيب ست شقق سكنية يوميا ، بعد ان صبت الاسس بالطرق الاعتيادية . ثم يدخل عمال الخدمات لاكمال جميع الاعمال الختامية بموجب منهج الاعمال . وقد اكملت اعمال المشروع ضمن المدة المحددة مع ابنية الخدمات وتوصيل الغاز وغيرها .
كان مقاول البناء شركة MAKERS الهندية . وقبل مباشرتها العمل كلفتُ المكتب الاستشاري العالمي Dan Group للاشراف على جميع الاعمال بنحو كامل حيث وفرت هذه الشركة الاستشارية ثمانية مهندسين ذوي خبرة في الاشراف كما تم تعيين مساحي كميات لاجراء الذرعات للانجازات اليومية وتدقيق سير العمل . واذكر هنا ان المهندس المقيم للمشروع كان الزميل رشيد الدبيسي الذي كان موضع اعتمادي في الكثير من الاعمال , عُين مهندسا مقيما من قبل امانة العاصمة طيلة
فترة البناء ، ثم نُسب معاونا لامين العاصمة للانشاءات ، بعد ان انتقلتُ الى منصب الوكيل الفني للامانة .
سارت اعمال انجاز تصنيع وتركيب الوحدات السكنية بصورة جيدة حيث كان بإمكان معمل صنع الوحدات مسبقة الصنع ان ينجز بنايه مكونه من سته شقق يومياً تركب في مواقعها بصورة كامله وتسلم الى فريق الاعمال الختامية. لقد قام المقاول بإنشاء معمل المنيوم لصناعة الابواب والشبابيك كما انشأ معمل نجاره بالموقع لإنجاز كل ما يتطلب من اعمال نجارة خشبية للأبواب والخزانات. وسارت اعمال هذا المشروع بصورة جيدة وامكن بواسطة توفير جهاز الاشراف الكفء تذليل جميع الصعوبات الفنية والسيطرة النوعية والسير بالأعمال وفق المنهاج الزمني المحدد.
ان تصاميم الوحدات السكنية والأبنية الخدمية لهذا المشروع , انموذجا متميزا يمكن تكراره في مناطق اخرى من بغداد او العراق وذلك لتوفر جميع وسائل راحة العائلة في الشقة والعمارة وسلامة حركه نقل الاشخاص داخل المشروع وتقديم الخدمات البلدية.
تم افتتاح المشروع في 17 تموز 1985 باحتفال مهيب حضره جمهور كبير من شخصيات بغداد ومسؤولي الدولة.
تم اقرار توزيع الشقق وبيعها الى موظفي الدولة بموجب نظام النقاط . فوزعت الى مستحقيها بعد تحمل خزانة الدولة نسبة 20% منه ، وبتقسيط المبلغ وقدره 37 الف دينار للشقة الواحده على عشرين سنة بفائدة 2% سنويا .
كانت مواصفات هذه الشقق الفاخرة ، ومبلغ بيعها للمواطنين بشروط مريحة للغاية ، تدعو الى التفكير الجاد بايجاد مهندسين ومقاولين عراقيين يعملون على انجاز مشاريع سكنية مماثلة في كل محافظات العراق ، والمساهمة بها لحل ازمة السكن المزمنة في العراق . ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه ..
لابد لي هنا ان اذكر شيئا ترك في نفسي اطيب الاثر ، ما يدعو الى الاعجاب والتقدير والاكبار لمقاولي المشروع ، شركة ميكرز الهندية . خلال فترة عملي في معاونيه الانشاءات ، كان علينا بموجب العقد مع الشركة الهندية ان ندقق خرائط المشروع في مقر الشركة في الهند ، فقمت بزيارتها مرتين في فترات مختلفة ، وقام المقاول وحسب طلبي , للتعرف على بلد الهند العظيم وعاداته وتقاليده وفلسفات الهنود , واثناء فترات تدقيق الخرائط والمخططات , باستضافتي على اكمل وجه ، حتى امتدت احدى الزيارات الى جنوب الهند ، واخرى الى مقاطعة كشمير وجبال الهملايا . كانت شركة ميكرز ، شركة عائلية تتكون من الاب والابناء والبنات واصهارهم . وقد توثقت علاقتي بهذه الاسرة الكريمة ، فقررت ان ادعوها الى بيتي ردا للجميل عند حضورها افتتاح المشروع في احتفالات تموز 1985
كانت الدعوة في بيتي في المنصور ، حضرتها عائلة ميكرز ، وجميع افراد اسرتي واشقائي الموجودين ببغداد آنذاك . اقمت الحفلة في حديقة البيت ، والجميل ان والدتي ـ رحمها الله ـ حضرت الحفلة ، وعند دخولها الحديقة قام جميع افراد اسرة ميكرز للسلام عليها ، لكني استغربت جدا عند مشاهدتي السيد ميكرز ابو الاسرة وهو يركع امام والدتي ويقبل من بعيد قدمها ، وتبعه بالتحية جميع افراد الاسرة الهندية . ثم تبادلوا معها عبارات التحية والسلام بكل ادب وهدوء . على الرغم من غرابة هذه الطريقة غير المألوفة في تقاليدنا ، الا اني لا انساها لما تضمنته من عظيم احترام الهنود لكبار السن والشيوخ .
مشروع شارع الخلفاء
احالت أمانة العاصمة مشروع تطوير شارع الخلفاء الى شركات عالمية . فقسم المشروع الى قسمين رئيسيين بناءً على الحاح وطلب الشركة العامة للمقاولات ، الاول وهو مكون من تسع عمارات الى شركة ENERGOPROJECT اليوغسلافية ، ويقع هذا الجزء على ساحة الميدان والجزء الغربي من شارع الخلفاء . واخذت الشركة العامة للمقاولات القسم الثاني من المشروع على الجزء الشرقي من شارع الخلفاء .
وضعت شركة TAC الامريكية التصميم الاساس لشارع الخلفاء ليكون شارعاً نموذجياً في مدينة بغداد ، كما قامت بتصميم العمارات معمارياً . وقامت بالتصاميم الانشائية شركة بلجيكية . وفي احدى زياراتي الى لندن لعيادة زوجتي المريضة ، طُلب الي ان ازور بلجيكا لتدقيق الخرائط الانشائية ، وان يرافقني ممثل الشركة العامة للمقاولات المهندس عبد الاحد عبودي ، وقد وجدتُ ان الخرائط جيدة والتصاميم بمواصفات عالية وتمت المصادقة عليها بنحو كامل .
باشرت الشركتان المقاولتان بالعمل بكل جد ونشاط . وكان المسؤول عن جزء الشركة العامة للمقاولات المهندس الله وردي جبرائيل الذي عمل معي في السابق في وزارة الاسكان. وتولى المهندس SASHA ادارة اعمال الشركة اليوغسلافية التي اعتمدت تصميماً سويسرياً جديداً في معمل صناعة الاجزاء الكونكريتية مسبقة الصنع .
ذلك لأن جميع العمارات التسع
صُممت ليكون معظم اجزائها من
الكونكريت مسبق الصنع .
في المعامل الاعتيادية لصناعة الكونكريت مسبق الصنع ، تكون القوالب ثابتة ، ويتم تنظيفها وربط حديد التسليح وشبكات الخدمات داخل القالب ، ثم يوضع الكونكريت ، وبعد تصلبه الاولي ، ينقل الى ساحات الانتظار والتصلب ، وبعدها يرفع على عربات ليركّب في موقعه بالعماره . اما في شارع الخلفاء ( خ 1 ) ، فاعتمدت الشركة اليوغسلافية اسلوب ان تكون جميع القوالب متحركة على احزمة ناقلة ، وتتم كل العمليات عليها في مواقع محدده ، ثم تنتهي في غرف التبخير للحصول على الصلابة المطلوبة قبل نقله الى مواقعه . وقد اثبتت هذه الطريقة كفاءةً عالية ، وساعدت على انجاز المشروع في وقته المحدد .
جرت اعمال الشركة اليوغسلافية بنحو جيد ، وعلى وفق برمجة دقيقة من ناحيتي العمل والنوعية. باعتقادي كان ذلك بسبب خبرة ادارة الشركة اليوغسلافية ومديرها SASHA الذي قام بأعمال مماثلة وناجحة في اماكن مختلفة من العالم . فضلا عن خبرة المهندسين الذين عملوا معه ، وكفاءة العمال اليوغسلاف الذين عملوا وفق المنهج وعلى مدار اليوم كله .
لم تصادفنا اية مشاكل تصميمية ، وكان جهاز الاشراف الكامل والممثل لامانة العاصمة من مدير المشروع ومهندسين بريطانيين من الشركة الاستشارية AITKINS ، اما تدقيق الخرائط فكان يتم من قبل شركة OVARUP الاستشارية . سارت جميع اعمال السراديب لتكون ملاجئ نووية ، وكل اعمال تصنيع الارضيات والاعمدة والجدران الداخلية والخارجية بسلاسة وبنحو دقيق ، كما هو الحال مع الاعمال الختامية والمعمارية الاخرى . ولايفوتني ان اذكر ان ساحة الميدان تم تصميمها مجدداً جُعلت مناسبةً لوقوف باصات نقل الركاب كما هو موجود حاليا وكما في مدن اخرى من العالم . كما اضفت بعض الاعمال الفنية المناسبة للمنطقة لراحة المواطنين ، كما اعتدتُ في اغلب اعمالي .
واذكر من حوادث تلك الفترة ، ماحدث في عصر احد ايام الخميس سنة 1983 ، عندما كان السيد عبد الحسين الشيخ علي وكيل الأمانة موجودا في موقع المشروع ، وكان جهاز حفر ووضع الركائز يعمل في ساحة الميدان قريبا من شارع الرشيد ، واذا بانفجار هائل صاحبه شرر كهربائي . توقف العمل فورا . كانت جميع الخرائط الموجودة لدينا لاتشير الى وجود قابلو رئيسي الا على بعد نحو مترين من موقع الحفر . تبين لعبد الحسين الشيخ علي ان اصطدام جهاز الحفر قد قطع تحت الارض قابلواً رئيسياً له علاقة مهمة بالعمليات العسكرية لوزارة الدفاع في الحرب العراقية الايرانية
تم استنفار جميع امكانيات شركة انركو – بروجكت اليوغسلافية لإبعاد المعدات عن موقع العمل واجراء عملية الصيانة على الفور . بقي عبد الحسين الشيخ علي في موقع العمل خشية معرفة مسؤولي وزارة الدفاع ، وربما اعتبروا الحادث عملا تخريبيا او عدوانيا . واتضح اننا كنا محظوظين يومذاك ، اذ لم تنتبه وزارة الدفاع القريبة من الموقع لهذا الانقطاع ، وربما كانت لوزارة الدفاع قابلوات محورية بديلة اخرى تم استخدامها دون انتباه الى ما حدث .
كانت نجاحات الشركة اليوغسلافية واضحة ، حتى اوشكت ان تنهي اعمالها ، في الوقت نفسه الذي كانت فيه الشركة العامة للمقاولات ما تزال تقوم بدق الركائز لمجموعة العمارات التي أنيط بها تنفيذها . كان هناك عدد من المشاكل الفنية مع الشركة العامة للمقاولات ، كفشل بعض الركائز ، وفشل الكونكريت المستعمل ،وشغب بعض العمال ضد مهندسي الاشراف . تسلمت تلك الشركة نحو 30 بالمئة من قيمة المشروع كسلفة تشغيلية خاصة ، دون ان تنجز ما يعادل ذلك من اعمال . وللاسف لم تستطع الشركة العامة للمقاولات من انجاز اعمالها .
ويمكنني ان اعزو ذلك الى عدم خبرة مهندسها المسؤول ، وضعف شخصيته ، وضعف الادارة العامة للشركة ووقوف السلطة وراؤه لحمايته . لقد تعرضنا بسبب ذلك الى خسائر مادية واقتصادية جسيمة ولم ينجز هذا الجزء من المشروع لحد الآن .
قاربت الشركة اليوغسلافية على انهاء اعمالها ، عندما كلفناها بأعمال تأثيث شارع حيفا وشارع الخلفاء ، في الوقت نفسه كانت لديها اعمال رئيسية عديدة مع الدولة . انجز المشروع وافتتح في احتفالات تموز 1985 بحضور امين العاصمة عبد الوهاب المفتي وكبار موظفي الدولة . ووزعت الشقق السكنية على مستحقيها من موظفي الدولة ، كما جعلت بعض العمارات دوائر ومؤسسات حكومية .