حديث في الموازنة

تشهد الاشهر الاخيرة من كل عام ارتفاعا في وتيرة الحديث عن موازنة الدولة السنوية ، فالتوقيتات تشير إلى ان على وزارتي التخطيط والمالية ان تنتهيا من اكمال مشروع الموازنة ورفعه إلى مجلس الوزراء خلال شهر ايلول او بداية شهر تشرين الاول ، ليقوم المجلس بمناقشتها والتصويت عليها ومن ثم ارسالها إلى مجلس النواب الذي يخضعها إلى المزيد من النقاش والجدل وأحيانا التعديل والإضافة والحذف وهذا قد يستغرق شهرين او اكثر قبل تمريرها بصيغتها النهائية إلى رئاسة الجمهورية .. وفي ظل هذا الجدل والنقاش تبرز الكثير من الاراء والملاحظات والانتقادات الشديدة للموازنة التي مازال الطابع التشغيلي هو الطاغي عليها مع تراجع واضح للجانب الاستثماري ، وهذا امر مبرر يعود إلى كثرة النفقات التشغيلية في ظل قلة الموارد المالية ، وهنا يأتي الحديث عن طبيعة الموازنة العراقية وهل تنسجم مع التوجهات العامة للاقتصاد ، او بنحو اخر ، هل تلبي الموازنة طموحات التنمية بجميع ابعادها الاجتماعية والاقتصادية ؟
فإذا اخذنا بنظر الاعتبار نوع الموازنة المتبعة، وهي موازنة البنود؛ فإننا سنجد انها لا تنسجم تماما مع توجهات الاقتصاد العراقي الذي يفترض ان يكون اقتصادا حرا وليس مركزيا اشتراكيا بعد التحول الذي شهده العراق عام 2003 وما نص عليه الدستور في هذا السياق ، اما عدم ملاءمة موازنة البنود للاقتصاد العراقي فيعود لأسباب مهمة لعل في مقدمتها إن هذا النوع من الموازنات بات قديما وهو يعود إلى أيام الدولة العثمانية ، وهي موازنة بدائية جرى مغادرتها من اغلب الاقتصادات العالمية التي كانت تعتمدها في مراحل سابقة لعدم قدرتها على تلبية متطلبات التنمية لاهتمامها بالرقابة ، ما يعني المزيد من القيود على الصرف وبالتالي تراجع امكانية تحقيق الاهداف التنموية ، كما ان الاموال ووفقا لموازنة البنود هذه ، يتم توجيهها ربما إلى مشاريع اقل اهمية من جانب ومن جانب اخر ، انها تركز على ضرورة صرف الاموال المخصصة للأنشطة بقطع النظر عما اذا كانت تلك الانشطة تسهم في تحقيق الاهداف ام لا ، لذلك نجد مؤسسات الدولة تتسابق في نهاية العام إلى صرف جميع التخصيصات المالية المتبقية لديها وعدم اعادتها إلى الخزينة ، لان عدم صرفها يعني ان هذه المؤسسة او تلك اخفقت في تحقيق برامجها وأهدافها السنوية ، لدرجة ان بعض المؤسسات تضطر لشراء مستلزمات ليست بحاجة اليها انما لمجرد صرف الاموال المتبقية لديها ، ومن المؤكد ان اسلوبا كهذا يمثل هدرا للمال العام تحت عنوان زيادة نسب التنفيذ الشكلي وليس الحقيقي ، ومن هنا يرتفع صوت الداعين إلى مغادرة موازنة البنود والتحول إلى موازنة البرامج والأداء بوصفها الافضل وتنسجم بنحو لا بأس به مع اقتصاد في مرحلة التحول مثل الاقتصاد العراقي ، ولو كنا قد اتبعنا موازنة البرامج منذ سنوات سابقة لكان الاقتصاد العراقي في حال يختلف عما هو عليه اليوم ، اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار ان حجم ايرادات الموازنات السنوية منذ عام 2006 ولحد الان كانت تتضمن ارقاما كبيرة جدا لو جرى توجيهها نحو القطاعات الانتاجية على وفق برامج تنموية لاستطعنا تحقيق الاهداف الاقتصادية والاجتماعية المطلوبة .
ولهذا نقول ان الاقتصاد العراقي وفي ظل التحديات الجسيمة التي يواجهها بحاجة إلى التركيز على الاهداف وليس على وسائل تحقيق تلك الاهداف من خلال قياس الكلفة الاجمالية للمشاريع والبرامج بصرف النظر عن من يقوم بالتغيير ، ومثل هذه المسارات التنموية لن تتحقق إلا باللجوء إلى موازنة البرامج والأداء ، او في الاقل محاولة المزاوجة بين النوعين في مسعى لتحويل المجتمع من مجتمع استهلاكي إلى مجتمع انتاجي ايجابي .
عبد الزهرة الهنداوي

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة