تداعي الحروب وإسقاطاتها في (خميلة الأجنة)

القسم الثاني

علوان السلمان

فالنص ذو بعد اجتماعي سياسي بمتوالياته الحدثية.. حرب الثمانينيات والحصار الاقتصادي وانعكاساتها على سايكولوجية الوجود الانساني والقيم السلوكية من خلال بطلها سوادي المتمرد على الواقع(لا جدوى من اراقة الدماء في عالم يعج بالاشباح والكلاب المسعورة..)ص157.من خلال تتبع السارد لوجوده الانساني فاعلا ومتفاعلا منذ طفولته حتى تشكيله صورة البطل(سوادي حمدان)..(في الثالثة من عمره بدأ سوادي رحلة البحث والاستكشاف..في ذلك العمر المبكر قرر البحث عن المفتاح الاسطوري..) ص25..فظل يتحرك بين عالمين:اولهما عالم جدته فضة القابلة التي تعيش في حجرة معتمة كانت تسميها(حجرة النور) لان الولادات تنطلق منها متنفسة النور الحياتي..وهذا يعني امتلاكها المفتاح الاسطوري للحياة الذي جعل سوادي(يتحرك شوقا ويزداد لهفة للعثور على العلبة التي تحتضنه ورؤية المفتاح الذهبي السحري..مفتاح جدته الاسطوري الذي يفتح الابواب لا طفال المدينة الصغيرة) ص25..وثانيهما عالمه الاسري والمحيط النفسي والمكاني..(بين الثالثة والثامنة أقام سوادي مع جدته..
جدته تسكن في شقة من ثلاث غرف..
جدته تسكن في احدى العمارات السبع..
في اسفل كل عمارة سرداب
في سرداب المبنى السكني الذي تقيم فيه جدته وخالته هند كان ابوه حمدان يصنع التوابيت..) ص35..
فالنص يركز على تيمة حاضرة بكل مفاصلها وامتداداتها الزمنية..عبر هيكليته البنائية التي تجمع ما بين السيرة وسيرة شخوص(نامية وثانوية) وسيرة مكان بوصفه بؤرة ثقافية مضافة..اضافة الى اهتمامه بوصف الانفعالات بتوظيفه السيميولوجيا لتغطية الجوانب المحيطة بالحدث من خلال تكثيف التعبير والتعامل مع الاشارة والرمز الجمالي..فضلا عن دخوله عوالم التاريخ والتخييل(ميتافكشن) للوصول الى غايته التي تختلط فيها الازمنة والامكنة وتعدد المشاهد وتتشابك الحوارات..
(مجيء سعدون وطوافه راكباً دراجته الهوائية بين الاحياء السكنيةأمسى باعثا على التشاؤم والحزن..وكان الناس يستقبلونه بوجوه معبسة تنم عن الكراهية والحقد والالم ويقذفون بوجهه الشتائم ويتلفظون بعبارات وقحة تدل على قلة الادب وعدم اللياقة:لا هلا ولا مرحبا..انت ثانية..علام جئت الينا هذه المرة؟..يا الهي بلاغان في شهر واحد..رباه من الذي هرسته مطحنة الحرب هذه المرة؟قل لي يا وجه النحس..لِمَ أتيت الينا ثانية؟ هيا قل لي من مات هذه المرة؟ ولدي؟ ولدي العزيز..فلذة كبدي؟نحبل بهم ونرضعهم ونكبرهم ثم تأخذهم منا هذه(القحبة) النتنة..الحرب..يبووه..يبووه..ام جواد..فطومة..ألم اقل لكما ان المسبحة انفرطت وابنائي سيموتون واحدا واحدا؟..) ص178..
فالنص يتسم بالروح الجمالية المحملة بالوجع المتدفق من ثناياه مع حضور مكثف للذات والذات الاخر بكونهما المحركين للحدث..فضلا عن توظيف بعض التقانات الفنية كالتنقيط(النص الصامت) والمكون الفضائي التشكيلي الذي يتنفس ضمن النسق السردي الذي يستدعي المستهلك(المتلقي) للمشاركة في ملء بياضاته..وهناك التكرار السمة الاسلوبية التوكيدية التي تسهم في بث الايقاع الداخلي بين جوانح وفضاءات النص واظهار القيمة الفكرية والدلالة النفسية.. اضافة الى ترسيخ الرؤية والكشف عن تجليات الذات الساردة وما يعتصرها نفسياً ..لذا فحركة المشهد عنده تتمثل فيما تحمله من عينات واقعية مضافة للحظة الجمالية التي تركز على اخراج النص من ذاتية المنتج الى افق اعادة انتاجه بذهنية مستهلكة..فضلا عن احتفاء الكاتب بالمكان متسائلا(لماذا جعل الله الموت يقرع ابواب الكوت من دون ان يغفل باباً واحدا؟) ص178..كونه يشكل احد عناصر العلاقات النصية(الشخصية/الحدث/الزمان/المكان/الرؤية..)..بانتزاع صوره المكتظة بشخوصه واحداثه وذكرياته حتى انه يتأنسن فيشارك المنتج همه ويكشف عن العلاقة التفاعلية التي تنشأ ما بين المنتج على المستوى التصويري والتخييلي عبر الذاكرة التاريخية والمعرفية..كونه فضاء وجدانياً ونفسياً يعبر عن حالة ترتكز على فعل التذكر واعتماد عنصر التخييل الفني..اذ يخرجه المنتج من حيزه المغلق الى فضاء مفتوح..اما توظيفه للهجة الشعبية فقد شكل قيمة فنية مضافة..فهو يوظفها كما هي لارتباطها بالذاكرة الجمعية من جهة والاحتفاظ بدلالاتها الايحائية وطاقتها التعبيرية من جهة اخرى..فضلا عن انه يكشف عن البيئة ويسهم في تصعيد الحدث النصي ومنحه صلة الربط بالذاكرة بصفته ظاهرة تسجل ذوبان اللغة المحكية بدلالاتها في ثنايا السرد واضفاء التعالق في وحدته..
(كان الدكتور عباس شهوانياً نزقاً..ولم يكن له سوى هوايتين هما التصوير الفوتوغرافي وقص خصلة شعر من كل فتاة او سيدة يضاجعها في غرفة الطبيب الخافر..في الدار القديمة التي يسكنها او في أي مكان آخر يختاره هو او تختاره هي عشاً للغرام..كان بفعلته هذه يقلد(زوربا اليوناني) بطل تلك الرواية الفذة التي قرأها بشغف لا نظير له ابان سنوات المراهقة..واعاد قراءتها مرات كثيرة في خلال سنوات دراسته في جامعة البصرة وعمله طبيباً مقيماً في مستشفى(الموانيء) او طبيباً ريفياً في مستشفى (المدينة)..ص160..
فالسارد يوظف الايروتيك الذي شكل حضوره على المستوى السردي لمحات يتطلبها النسق الحكائي لتحقيق هدف فني(ليس اغوائياً او اغرائياً مجانا) على حد تعبير وارد بدر السالم..فهو يتناوله ليجعله خلفية كاشفة للشخصية..لذا فهو جزء من الحدث الروائي الذي يسهم في تصعيد السرد..باعتماد وسائل فنية تخضع لقدرة الكاتب..كونه ثقافة انسانية لها امتداداتها التاريخية تكشف عن مجتمعيتها وانسانيتها الثقافية المضفية للتشويق بابتعادها عن الابتذال بصفتها اساس الوجود والحياة المكتظين بالمفارقات الغرائبية والسخرية التي فرشت روحها على الامتداد النصي..منها :
(الطفلة المراهقة (عذراء) التي جرها شيطان انوثتها لاختراق عزلة صانع التوابيت (حمدان).. ظهيرة يوم شتائي..كانون الثاني او شباط ربما..مطر خفيف..امها عمياء كانت ترعبها فكرة ان تموت هي وتبقى عذراء من دون زوج..نزوة من نزوات المراهقة دفعت عذراء للنزول الى السرداب..)ص59
( ويظل بطل الرواية سوادي يضرب برأسه على المنصة الكونكريتية التي يرقص عليها مع الغجريات زمن الحرب..وفي صدره تظل صرخته سجينة روحه حتى تنمو وتكبر وتشكل حدبتين على ظهره وصدره..
(كان المدرب يقول لسوادي:انت براز..وكان مرغماً على الاجابة:نعم.انا براز..ويقول ثانية:انت حثالة.. أليس كذلك؟ويرد عليه:بالايجاب..فينفجر المدرب ضاحكاً وتسيل من فمه الشتائم:انت خروف اجرب لا تساوي فلساً..بل انت كلب حقير لا تساوي فلساً..وكان عليه ان يؤيده لان الصراخ والاحتجاج والشكوى والتذمر كلها لن تجدي نفعاً بعد اليوم/ص154 ـ ص155..
(سقوط صاروخ في سوق شعبي..يضطر جنين زكية اخت سوادي للخروج من بطن امه الى الفضاء ليعلن انفصاله عن العالم احتجاجاً على الحروب ونتائجها..
(حين تيقن جنين زكية من هذا كله قرر هو ايضا ان يقطع حبله ـ تضامناً مع اولئك الذين ماتوا و قطعت حبالهم السرية عن الحياةـ شكرا للعناية الالهية فهو لا يريد ان يعيش وحيداً لان(جنة بلا ناس ما بتنداس)..وهكذا صمم الجنين ومن غير انذار مسبق ان ينفصل عن امه وعن العالم بأسره)..ص180
(صوت المغني لم يزل يرن في الفضاء:شلك علي يازمن وشرايد.. ص181..
فالسارد يوظف اسلوب الحكي في بناء نصه مضفيا عليه حركة التناقض عبر الحدث لتحقيق اللحظة الدرامية التي تكمن في حركة النص وتعدد ابعادها المنحصرة في اللغة التي تركز على الفعل المتوهج..الناقل للرؤية السردية المتكئة على زمن يسير بخطين متوازيين:زمن لا متناه يستشعره الفرد من خلال مشاعره واحاسيسه الداخلية.. وزمن حدثي يقاس بتتابع الاحداث في الواقع..لذا فالمنتج يحتفي بالمكان لانه يشكل احد عناصر العلاقات النصية(الشخصية/الحدث/الزمان/المكان/الرؤية…)..
هذا يعني ان النص السردي يتميز بتعدد الاصوات و الشخصيات المتباينة فكرياً ونفسياً وبيئياً ..مع ارتكازه على حشد من المرموزات التي يوظفها المنتج السارد ويمنحها لمستهلكها مؤسسا عوالمه بنسج مكوناته المعرفية فيقدم وعياً متجاوزاً الواقع.. بخطاب سردي يعبر عن موقف اجتماعي وانساني حمل دلالات الواقع بانساق متعددة الظلال والرؤية.. فضلا عن التركيز على جمالية السياق معنى ومبنى مستمداً تأثيره من خلجات النفس واحلامها السابحة في فضاءات المخيلة السردية المعانقة للواقع بكل تناقضاته وافرازاته عبر تجربة دالة على الاسترسال في تجريد الذاتية من هواجسها ومزجها بالموضوع بشكل متناسق سردياً..مضيئاً لخبايا الذات ومفعماً بالخيال المتوهج.. المرتبط بالاحداث المستفزة للوعي بما تحمله من عمق فكري وبعد نفسي يكشف عن اشتغالات سايكولوجية مستندة لمعطيات الشخصية وسلوكها وتحولاتها..من خلال شخصيتها الرئيسة(سوادي حمدان)الذي يعيش في كنف جدته(فضة) القابلة المأذونة..وعندما يقتاد الى الحرب تظهر له حدبتان في العام الثالث منها(في ظهره وصدره نبتت حدبتان..حدث ذلك في العام الثالث للحرب..بعضهم قال:السبب شدة خارجية..آخرون قالوا:عدوى..وفريق ثالث قال:ضغوط نفسية..)ص122.. وهناك يتعرف على ريسان الذي درس الاقتصاد وجرح اربع مرات وكرم على اثرها باوسمة وانواط..وزرياب عازف الكمان وابن عائلة ارستقراطية بغدادية.. يتفق وسوادي على الهرب تحت جنح الظلام من ثكنتهما العسكرية بحثاً عن الحرية وتحقيق فعل الحياة المعاكس لفعل الموت..بمعايشة موجودات الماخور ليبقوا على قيد الحياة ويسمعوا(عادي أم ممتاز) المقصود(نوع الحجرة) و(سفري ام سياحي) يقصد(معايشة بائعة الهوى لليلة)..كون سوادي ادرك الحقيقة القائلة(ان لاجدوى من هدر الدماء في عالم يعج بالاشباح والكلاب المسعورة../ص157..
وهناك سعدون ساعي بريد الكوت العارف بكل ساكنيها..وام سوادي التي ودعت الانوثة وصارت تصنع المخللات فتغازل برطمات الخل..وتقمط الخيار المحشو بالكرفس والثوم وكأنها قابلة تقمط طفلا وليدا.. وابو سوادي الذي يعتزل السياسة ويتفرد بصنع التوابيت في سرداب تحت مبنى العمارة السكنية.. وغياث خال سوادي الذي ترك محل صنع الاحذية وتوليه مسؤولية العمل في دكان ابيه..والذي هدد حمدان (زوج اخته) ناصحاً له بقطع علاقته بعذراء الفتاة اليتيمة..وهناك عذراء بنت السادسة عشرة التي يتزوجها ابو سوادي ويعيش معها وامها الارملة العمياء وصبي في التاسعة او العاشرة اسمه حمودي الذي يضايق حمدان في كثير من الاحيان بسؤالين يكررهما:لماذا يسبب البيض الحساسية؟ ولماذا الاسماك ليس لها اجفان؟ ويولي هارباً..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة