كنت أظن إلى وقت قريب أن الكتاب والمؤلفين وأهل القلم هم أكثر الناس عناية بتأريخهم الشخصي، وأشدهم اهتماماً بسيرتهم الذاتية. وأنهم بسبب ذلك لا يغفلون أي صغيرة أو كبيرة تقع عليهم. ولا يتجاهلون أي شاردة أو واردة تمر بهم. فإذا ما انطوى عصرهم، كان من اليسير مراجعة ملفاتهم اليومية مندون عناء يذكر، ومعرفة ما طرأ على تفكيرهم من تغيير، بغير ما حرج أو كلفة.
وقد اتضح لي في ما بعد خطأ ما ذهبت إليه في هذا الاتجاه، لدرجة بت أعتقد معها أنهم ضحايا تجاهل متعمد، أو مؤامرة مدبرة. وأن كثيراً منهم وقع الآن في دائرة الشك. فهم موجودون لدى البعض، ومتخيلون لدى البعض الآخر. وهذه هي الكارثة التي يصعب الخلاص منها من دون تبعات. وحتى يكون القارئ على بينة من الأمر، أسوق إليه مثلاً صغيراً يتعلق بالشاعر اليوناني هوميروس صاحب «الإلياذة». وهي ملحمة شعرية في 18 ألف بيت موزون ومقفى، تروي الوقائع الحربية التي خاضها البطل «أخيل» لإخضاع مدينة طروادة. وله ملحمة أخرى اسمها «الأوديسة» تكمل ما انتهى إليه في «الإلياذة». وهاتان الملحمتان كتبتا بعد وفاة الشاعر المفترض بمئة عام. ويعتقد الكثير من الباحثين أن شعراء كثيرين أسهموا في نظم هذه القصائد وربما كان هوميروس واحداً منهم، أو لم يكن موجوداً على الإطلاق!
لقد قادني إلى هذا الحديث ما كنت أؤمله في سيرة الشاعر الإيراني الكبير عمر الخيام. ولم أكن أحسب لفرط ما حاز عليه من شهرة أنه بلا تاريخ شخصي. فلا أحد يعرف متى ولد ومتى توفي. ولا أحد يعلم هل تزوج وأنجب أم لا. ولا لأي من الطبقات ينتمي، ولأي من الفرق الإسلامية يعود. ولو لم يبادر شاعر الإنجليز فيتزجيرالد عام 1859 إلى ترجمة رباعياته إلى لغته، لما سمع العالم والعرب على وجه الخصوص به. وحتى هذه الرباعيات مختلف عليها. فهناك من يعتقد أن العدد الحقيقي للرباعيات (125) رباعياً. أما المتداول منها الآن فالأرقام تتفاوت بين (750) إلى (2000) رباعي!
والأدهى من ذلك أن أحد الثقات وهو الدكتور مصطفى جواد اكتشف خياماً آخر اسمه علي بن محمد الخيام، كانت له شهرة واسعة في نواحي خراسان وآذربيجان. ولكن ديوانه الشعري هو أيضا، ليس له أثر في المكتبات الآن! ويعتقد البعض أن شعره ربما يكون ذاب في شعر الخيام الأول!
ولشحة المعلومات عن عمر الخيام فإن الناس وضعوا عنه روايات عجيبة جعلته على صلة وثيقة بأناس يختلفون عنه في التفكير والعقيدة والمزاج مثل الوزير نظام الملك والداعية الاسماعيلي حسن الصباح. ووصموه بنعوت شتى مثل الخلاعة والتهتك والمجون، وهو عالم كبير انقطع للدرس والبحث والتأمل. ومن مآثره مرصد مراغة الفلكي، والتقويم الفارسي الجديد. وأثر عنه حل معادلات رياضية من الدرجة الثالثة، وقسمة ربع الدائرة، عدا عن رسائله في الفلسفة والموسيقى والعلوم الأخرى.
هل جنت الشهرة على هؤلاء الرجال فنسبت إليهم ما ليس فيهم؟ وهل ستتكرر مثل هذه المفارقات في عصر الطباعة والإعلام المرئي والمعلومات؟ أو أن قضية الشعر الجاهلي القديمة ستظل قائمة إلى ما لا نهاية؟
محمد زكي إبراهيم
هوميروس وعمر الخيام
التعليقات مغلقة