علوان السلمان
القسم الاول
ـ الكتابة الخلاقة وحدها التي تصدم أفق التوقع فتشظيه.. والفنون بكل اجناسها محفزات استفزازية للوعي الذاتي والذاتي الجمعي الآخر من اجل استنطاق الوجود بكل تشكلاته ومكوناته للكشف عما خلف مشاهده عبر الاسئلة التي تتعلق بالحياة وسيرتها والموت نهايتها.. والرواية..الظاهرة الابداعية المسكونة بالشخوص والاحداث والزمكانية.. فضلا عن تعدد الاساليب فيها واللسانيات، والاصوات..بصفتها تشكيلاً حكائياً..جمالياً يفضي الى مناخات اللامرئي في هيكليتها البنائية باعتماد لغة حوارية..اجتماعية تتفاعل فيها لغة الحوار مع لغة السرد داخل محكياتها المتبادلة الانعكاس في الخطاب..مما يكشف عن تعدد الاصوات والاستعانة بالاشارة والرمزمع افادة من تقنيات تيار الوعي(تداعي/تخييل/احلام يقظة..) وحركة الزمن(استرجاعاً واستباقاً) من اجل تحقيق اغراض جمالية.. وباستدعاء النص الروائي(خميلة الاجنة)…الذي تسعى كتابته التي يجترحها منتجه علي عبدالامير الى اسلوب متجاوز المقدمات التقليدية للحروب وتداعياتها مما يستدعي المستهلك(المتلقي) للانسجام مع تصاعد السرد وانكسارات آفاقه التوقعية المتصلة بالأحداث والشخوص..وقد اسهمت المؤسسة العربية للدراسات والنشر في نشرها وانتشارها/2008..كونها تطرح فكرة الحياة والموت برمزيها(القابلة وصانع التوابي) والمنتج يسبح بينهما منطلقاً من المكان(العمارة السكنية) بموجوداتها وطوابقها..والتي تسهم في تفسير الخراب الموازي لتداعيات الحروب واسقاطاتها بلغة تعكس كل هذا في بنية الفرد ونسيجه المجتمعي والحياتي اليومي..اضافة الى اسهامها في كسر آليات السياق الخطي وخلخلة البنية السردية السمعية باعتماد المشهدية المتداخلة التي تدين الحرب وتعريها من خلال الافادة من معطيات الخيال وخلق الايهام بدمج الحاضر بالماضي مع امتلاك القدرة على تصوير الواقع واستلهام تناقضاته مع قدرة على رصد العلاقات الاجتماعية بمكنوناتها الفنية(شخصية/حدث/ مكان بشقيه(مغلق/مفتوح) حوار ذاتي وحوار موضوعي..
(قرفصوا بإزاء احد الجدران..كانوا أشبه بالقطط التي جاءت لتحتمي تحت الافريز من المطر..لا يدرون ماذا سيحل بهم..ولا الى اين ستذرهم رياح المصير..كلمهم رجل ذو لكنة غريبة على اسماعهم من مكان خفي..كان يتحدث بالميكرفون..وكانت لغته مليئة بالترغيب والترهيب..لم يندهشوا من تلك اللغة..فقد دأبوا على سماعها من زمن غير قصير لكنهم بوغتوا باللكنة الغريبة التي كان يتحدث بها الرجل الخفي..
لكز سوادي رفيقه الواقف الى جنبه بازاء الجدار الصقيل قائلا:هل عرفته؟
أجابه هامسا:لا..أتعرفه انت؟
قال سوادي:لا ادري..يخيل لي انني سمعت هذا الصوت من قبل.
فرد الجندي:الصوت نعم..لكن اللكنة غريبة.وهل تعتقد انه غيّر لكنته كي لا نتعرف عليه؟
قال سوادي:ربما..الله اعلم
وبعدها سأل رفيقه ساخراً:هل سيكافئوننا؟
أجاب:يكافئوننا؟ هل جننت؟ يكافئوننا على ارتياد المواخير؟يبدو اننا مدعوون الى وليمة..وليمة مع قائد الفيلق..
ضحكا هو ورفيقه الواقف لصقه ضحكات خافتة مكبوتة..كان الرجل ما يزال يتحدث بالميكروفون باللهجة الغريبة ذاتها..وبعد دقائق سمعوا ضحكة مدوية ربما منه..وقال لهم الرجل الخفي:كلوا واشربوا لاننا اخيرا ولحسن حظكم قررنا عوضا عن الاعدام رميا بالرصاص ان نطوعكم للجيش ونحولكم الى مهرجين..مهرجين في سيرك الفيلق..السيرك سيجوب طول البلاد وعرضها.. حتى في القصف المدفعي والصاروخي سيكون هناك رقص وطرب وغناء..دبكات و(هيوة)و(ميجنا)..وكل انواع الرقص والغناء التي عرفتموها..وسترافقكم الغجريات والقرود التي تم استيرادها حديثا..فما اجمل الرقص والغناء في زمن الحرب..) /ص150 ـ ص152..
فالحوار..المكون الفني الذي تنوعت استعمالاته شكل عند السارد صورة من صور تفاعل الشخصيات مع ذاتها والآخر..اذ استطاع السارد اختراق العالم الداخلي للشخصية وتتبع الفعالية التي تجري في ذاتها واظهار ما هو كامن من الشعور والاخيلة..انه حوار ترجيعي من الذات والى الذات كونه مرتبطاً بالبوح الوجداني للشخصية التي تعيش حالة قلق نفسي واغترابي..هذا يعني ان الحوار الذاتي(المونولجي) يأتي منسجماً والتكوين السايكولوجي للشخصية التي تعاني من ازمات تجعلها حذرة في الافصاح.. والتفرد بصوتها ووسيلتها..حتى ان حركة الزمن في الحوار الداخلي تكون حركة افقية وعمودية معاً فتتداخل الازمنة وتتلون الضمائر..
اما الحوار الموضوعي(الديالوجي) الذي هو صورة من صور تفاعل الشخوص مع بعضها فيعد من ابرز العناصر التعبيرية والتصويرية..اذ تتناوب فيه الشخوص في الحديث ضمن اطار المشهد داخل العمل السردي..مما يقتضي غياب الراوي العليم الذي ينتحي جانباً متخلياً عن وظيفته في تقديم السرد..مفسحا المجال للشخوص لتقديم صوتها بنفسها.. بصورة مكثفة والراوي يسهم في تجسيد هذه الصفة وذلك عن لارتباطها بالزمن الذي يعد الشعور به ظاهرة نفسية تدركها النفس بذاتها ومع ذاتها..
ابتداء من العنوان الدلالة السيميائية والعتبة الموجهة قرائياً ودلالياً واجناسياً..والنص الموازي الجامع ما بين دقة الايحاء والعمق التكثيفي معبرا عن ارادة النص اختزالا وايجازاً تؤطره اشارات دلالية مكتنزة بشحنات بنائية وتركيبية وسيميائية مركزة تكشف عن عتبة النص وكينونة كونه عنصر بنيوي يمنحه هويته ويحدد ملامحه من خلال بنائه تخييلياً واختزاله لمضمونه واستنطاقه لافكاره التي تحيل الى رؤية تدفع الى تحقيق وظائفه التأويلية والدلالية التي تعلن عن تقابل ذات الانا وذات الانا الآخر..
(سوادي اقتيد الى الحرب..وكان عليه وعلى عشرات لا بل مئات الالاف من الجنود ان يتحملوا تلك الاعوام الرهيبة..رداءة الطعام..زفير الصحراء..تردي الظروف البيئية..مئات الجنود سقطوا ضحايا للتدرن الرئوي والجرب والتسمم الدموي جراء لسعات العقارب والافاعي..سوادي واحد من اولئك الجنود..عقربان(او ربما عقرب واحدة لسعتاه مرتين..).. في الخندق ظهرت اولى علامات حدبة الظهر..رافق بزوغها حمى وقشعريرة وفقدان شهية وسعال..وبعد ان تماثل للشفاء(مع ان حدبته استمرت بالنمو)..قرر الفرار اول مرة../ص121..