في جلسة نادرة دعت إليها صحيفة بغدادية قبل أكثر من عشر سنوات، اجتمع عدد غير يسير من الإعلاميين والكتاب والأكاديميين في قاعة مفتوحة، وطلب إليهم أن يتحدثوا لدقائق معدودات قبل أن تغدق عليهم الشهادات التقديرية! وقد أدلى بعضهم بانطباعات جميلة عن الصحافة والأدب والسياسة. وتوجع البعض الآخر من قلة احتفال الإعلام المرئي والمقروء به. في ما شكا غيرهما من إعراض السلطة، وقلة اهتمامها بأوضاع النخبة المعيشية.
ومع أن هذا الموضوع ليس جديداً، وكان سمة مشتركة لكل العهود والأزمان، إلا أن السنوات القليلة التي أعقبت انهيار النظام القديم، وحلول آخر محله، كانت تعد بالكثير من الرخاء. وتبشر بإنصاف العاملين في شتى المجالات .. الثقافية!
وقد تجرأ أحدهم على إبداء عجبه من صروف الدهر كيف ترفع أناساً، وكيف تزري بغيرهم، من دون أن تتوخى العدالة. وقال بلهجة شبه منكسرة، وهو يرأس تحرير صحيفة أسبوعية مغمورة، تابعة لأحد الأحزاب غير المتنفذة، إنه لا يرى في من تقلد الوزارة في ذلك الحين، من هو أكثر منه ذكاءً وعلماً وخبرة. فكيف أصبح هؤلاء في المقدمة، ولبث هو على حاله في المؤخرة!
وأزعم أن حديثه هذا أثار الكثير من الهمهمة والسخرية والمرارة وسط الحضور. وقد اهتبلت هذه الفرصة وزحفت نحو المنصة، بعد أن تهيأ لي ما كنت أبحث عنه. وأخذت أواسي هذا الصديق باستغرابي من اعتقاده أن الأهمية توزن بالمنصب، وأن اختيار المسؤولين يعتمد على الكفاءة. ثم تساءلت مازحاً إذا كانت وزارات العراق لا تزيد على ثلاث وثلاثين وزارة. فإلى أين يذهب من يعتقد في نفسه الأهلية؟
والواقع أن هذا الموضوع شغل الفقهاء في القرون الهجرية الأولى، ومايزالون مختلفين عليه حتى الآن. وهو السبب في انشقاق المسلمين إلى مذاهب وجماعات. وقد تبنت بعض الفرق الإسلامية الصغيرة منهجاً وسطاً ينادي بإمامة المفضول لحل المشكلة أو التخفيف منها. ولكنني لم أشأ الخوض في هذا الشأن، بل تجاوزته إلى قضية أخرى أكثر عصرية، وهي هل أن حسني مبارك الرئيس المصري في حينه هو أهم من نجيب محفوظ الروائي الكبير (وكان مايزال على قيد الحياة) إذا كانت الرجال توزن بالمناصب والنفوذ والسلطة؟
إن أحداً من الحاضرين لم يجبني صراحة عن السؤال. فلم يكن هناك بينهم من يهبط بنجيب محفوظ من عليائه. وفي الوقت ذاته، لم يكن بينهم من يزهد في المنصب الحكومي الذي تتوق نفسه إليه في كل لحظة!
إن أسماء مثل المتنبي والشريف الرضي وأبي العلاء والخوارزمي وجابر بن حيان لم تغب عن أذهان الناس في كل العصور بغض النظر عن الهم الشخصي. ولكنني لا أظن أن أحداً من ذوي الاختصاص يحفظ أسماء خلفاء بني العباس في القرنين الرابع والخامس الهجريين. مع أن هؤلاء الخلفاء امتلكوا من القوة والمال ما لم يحلم ولو بالقليل منه أحد أولئك الرجال في يوم من الأيام!
لا بد أن نخرج من هوسنا المزمن بالسلطة، ونخلق لأنفسنا عالمنا الخاص، حتى يشعر الجميع أن هناك في الحياة ما هو جدير بالأهمية، وأن ليس بالمنصب الحكومي وحده يحيا الإنسان!
محمد زكي ابراهيم
على الماشي !
التعليقات مغلقة