(منذ نشأتِها حتى العام 1992م)
القسم التاسع والأخير
د. عبد الرضا علي
سادساً ـ الاتجاهُ الإسلاميُّ في نقدِ الشعرِ:
وهو اتجاهٌ جديدٌ يحاولُ أنْ يُسهمَ في رسمِ الإطارِ العام لنظريَّةِ أدبٍ إسلاميَّةٍ، بما فيها نقدُ الشعرِ والأجناسِ الأخرى وصولاً إلى تأصيلِ القولِ في هذا الاتجاهِ تأصيلاً علميَّاً منهجيَّاً من خلالِ التنظير والتطبيقِ. أي أنَّ هذا الاتجاهَ لايكتفي بوضعِ الأسسِ الفكريَّةِ التي يقومُ عليها هذا الاتجاه فلسفيَّاً، إنَّما يُخضعُ الكثيرَ من النصوصِ التي تتَّصفُ بالإسلاميَّةِ لامتحانِهِ التطبيقيِّ، وفحصِها موضوعيَّاً، وتبيينِ ما لها وما عليها فنيَّاً؛ ورائدا هذا الاتجاهِ في الموصل هما : الدكتور عماد الدين خليل، وحكمت صالح.
يقومُ هذا الاتجاهُ على أُسسٍ قويمةٍ في الاكتسابِ المعرفيِّ بعد الاستعدادِ الفطريِّ (لأنَّ النقدَ على وفقِ ما نرى إبداعٌ) فهو يفترضُ ثقافةً قرآنيَّةً واسعةً، ودرايةً عاليَّةً في علومِ الدينِ، وأُسساً منطقيَّةً فيما عُرفَ بالفلسفةِ الإسلاميَّةِ الشاملةِ في الكونِ، والحياةِ، والنشورِ، وما في تلك الدائرةِ الكبيرةِ من مقاصد؛ لذلك لا يتأتَّى هذا الاتجاه إلا لمن اضطلعَ بالنظرِ الكثيرِ إلى النتاجِ الشعريِّ بعامَّةٍ، والإسلاميِّ بخاصَّـةٍ، وأسهمَ فيهِ بتواصلٍ تامٍّ من غيرِ انقطاعٍ، إلا إذا كانَ ذلك اضطراراً. لهذا عُدَّ الدكتور عماد الدين خليل رائدهُ في ميدانيِّ التنظيرِ والتطبيقِ، في حين كانت إسهاماتُ حكمت صالح تُشيرُ إلى ريادتِهِ في ميدانِ التطبيقِ أكثر منها في التنظير.
إنَّ أربعةَ كُتبٍ تحاولُ تصويرَ، أو تحديدَ هذا الاتجاه في نظريَّةِ الأدبِ الإسلاميَّةِ للدكتور عماد الدين خليل وحده، فضلاً عن مقالاتِهِ الكثيرةِ الأُخرى يُعَدُّ إسهاماً، وينبغي الإشارة إليهِ بالبنانِ حتَّى إن اختلفَ معهُ أصحابُ الاتجاهاتِ الأخرى. لأنَّه يدلُّ بها على اضطلاعٍ صادقٍ بهذا الهمِّ الأدبيِّ، ومحاولةِ تأصيلهِ منهجيَّاً؛ ممَّا يكشفُ عن ثقافةٍ واسعةٍ جديرةٍ بالتنويهِ والإشادة.
ولعلَّ في الاقتباسِ الآتي ما يكشفُ شيئاً عن هذا الاتجاهِ، ويوضِّحُ مقاصدَهُ:(( النقدُ هو مزيجٌ معقَّدٌ من صرامةِ الأحكامِ، وهُيامِ الروحِ العاشقةِ وتشبّـثِها بالمحبوبِ..النقدُ هو موازنةٌ فذَةٌ بين الذاتِ والموضوعِ …وقوفٌ في نقطةٍ وسطٍ بين الصدودِ جامدينَ ميِّـتينَ إزاءِ ما نقرؤهُ، أو نراهُ، أو نسمعُهُ من معطياتٍ الأدبِ، وبين الارتماءِ في الأحضانِ بخفَّةٍ مجنونةٍ، ننسى معها كيانَنا ونضيعُ. ليس النقدُ موتاً، ولا ضياعاً..لكنَّهُ ـ باختصارٍ ـ بعثٌ وتماسُكٌ: ذاتاً وموضوعاً، دهشةً وإمعاناً، تأمُّلاً وإعجاباً، عِلماً وشعراً، تحيُّزاً وحياداً… والذي يقولُ غيرَ ذلك يكذبُ على نفسِهِ، وعلى الآخرينَ… إنَّ الأحكامَ الجازمةَ مرفوضةٌ فـي عالـمِ الأدبِ والنقدِ الإسلامييـنِ، إذ ما دامَ المسلمُ قد غدا مسلماً بحقٍّ فلماذا لا يكونُ ميزاناً صادقاً في كلِّ حـالٍ من الأحـوال؟ .))(¹) .
أمَّا حكمت صالح، فلعلَّ إسهاماتِه التطبيقيَّةَ المتميِّزةَ في هذا الاتجاهِ أعلنت عن رصانتِها النقديَّةِ، وأطروحاتها السليمةِ في أفانينِ الصورِ التي وقف عندها ناقداً في أكثر من ديوانٍ، ولا مداهنةَ إنْ قلنا : إنَّ كتابَهُ الموسومَ بـ((دراسة فنيَّة في شعرِ الإمامِِ الشافعيَّ))(2) يرقى إلى الدراساتِ الجامعيَّةِ الرصينةِ منهجاً وأداءً، وهو إنْ لم يكنْ أفضلَ من بعضِها التي حصل أصحابُها على درجةِ الماجستيرِ، فهو لا يقلُّ علميَّاً عن بعضها الآخرِ، ناهيكَ عن دراساتهِ الأخرى(3) التي شكَّلت جُهداً مدهشاً لهذا الباحثِ الدؤوبِ ذي الأدبِ الرفيع.
تلك كانت أهمَّ المنطلقاتِ، والاتجاهاتِ العلميَّةِ النقديَّةِ التي استقرأناها في حركةِ نقدِ الشعرِ في الموصلِ خلال الحقبةِ المعاصرةِ (المحدَّدةِ) بداءَةً ونضجاً، وهي مؤشّراتٌ أكيدةٌ على قدرةِ الأديبِ الموصليِّ على التفاعلِ مع الشعرِ في كلِّ مراحِلِهِ تفاعُلاً نقديَّاً رصيناً دلَّ على عُمقِ النظرِ إليهِ منهجاً، مع سلامةِ النتائجِ التي توصَّلَ إليها الناقدُ معياريَّاً، فإنْ ظهرَ في هذه الدراسةِ قصورٌ في تأصيلِ الملامحِ والاتجاهاتِ ، أو في ذكرِ الإنجازاتِ والأسماءِ التي اضطلعت بالنقدِ منطلَقاً، وتطبيقاً، فإنَّ الكمال لله تعالى وحدَهُ، وعُذرُنا أنَّ المساحةَ واسعةٌ، والوقتُ ضيِّقٌ، فكان الاختيارُ حقَّاً منهجيَّاً لا تفضيلاً لأحدٍ على من سواه، وإن ظهرَ فيها ما يُرضي القارئَ الكريمَ، ويحظى بقبولِهِ، فهو الهدف الذي قَصَدْنا تحقيقَه، وعذراً لمن لم يردْ ذكرُهُ في هذه الدراسةِ.
الدكتور عبد الرضا عليّ
جامعة الموصل في 21/01/ 1992م.