«علي لفتة سعيد» يعيش صراع الأزمنة رواية (الصورة الثالثة) أنموذجاً

وجدان عبدالعزيز

الرواية كما نعلم كتابة فنية، والواقع قد يكون منهلا لها، فهناك منطقة ممكن الوقوف عندها، حينما ندرك ان الروائي راصد ذكي، وذلك عندما يحقق معادلة بين الوظيفة الفنية والوظيفة الانسانية، وبالتالي يحدث نوع من المشاركة بين القارئ والروائي.. من هذا كانت رواية (الصورة الثالثة) للكاتب علي لفتة سعيد، التي جاءت عبارة عن لوحات وجع انساني، لوحة المثقف والكاتب وهو يعيش الفقدان واللاجدوى، ولوحة الجندي الذي عاش ويلات الحرب وحالات الكر والفر، وصراع الموت والحياة، ولوحة الزوجة التي فقدت زوجها الحي، ولكنه معطل كأي جهاز جامد خارج عن الخدمة.. وضجت الرواية بالفقدانات والحرمان، فالحرب حالة استثنائية في الإنسان، كحالة المرض، وإلا فالمطلوب عند الخلاف تحكيم الحوار، ورضوخ من ليس له الحق للحق، وحيث أن الحرب خلاف طبيعة الإنسان، لأنها تفني الأفراد وتهدم الديار وتلتهم الأموال، وتبعث على الخوف والاضطراب، بل وأحياناً توجب هتك حرمات النساء، وإذلال المغلوب ـ إذا كان مغلوباً ـ فالأمم قاطبة لا تريد الحروب، وإنما جماعة من الناس لها مصلحة في الحرب ، هي التي تشعلها.. وتترك الحروب ولاسيما تلك الحروب ذات الصبغة العدوانية العنيفة اثرها النفسي السيء على المجتمع ككل، فهي خراب ودمار- ودماء تسيل واشلاء متناثرة وجثث مقطعة،وقد يكون الزمن كفيلاً بتجاوز هذه الازمات، واما ما الذي لا يمحوه الزمن، فهو الاثر النفسي الذي تتركه الحروب بداخل كل من عاصرها وعايش الرعب والقلق وفقد عزيز – او قريب – او دار يستظل بها، وما اشد فتكاً في هذه الحروب، هو تدمير الذات الانسانية، و كل التوازن النفسى للمواطنين.. وهذا ما دل عليه الكاتب علي لفتة سعيد في رسم لوحات الوجع، وكانت روايته وحكاياتها جاءت من خلال السرد الذاتي، والصوت الواحد الذي يكاد ان يسيطر على اجوائها عامة.. فكانت العلاقات التي سادت بين محسن، بطل الرواية وهو كاتب، ومهند وهو شاعر قلق يحاول ركوب موجة الحداثة، وناهض وهو ناقد، وسلوى التي فقدت اطار الحياة الزوجية الجسدي والتوافق الانساني.. ويشتد الصراع بين هذه الشخصيات بمد وجزر.. وتوالت علينا مشاهدها وواقع الحياة التي تفيأت بظلال تلك الحروب الوسخة القذرة.. لكن جاءت، أي الحرب المقصودة براويته مع الاسف بمسوغات الوطنية والدفاع عن العرض والكرامة، ودوافع القومية، لهذا اندفع الكثير نحو اتون اوارها، وهو يحمل بسالة المقاتل الشجاع.. وعلى العموم فان رواية (الصورة الثالثة) تبحث في الاوجاع بعيداً عن تفسير الموقف من الحرب، سوى موقف الرفض والمقت انطلاقاً من طبيعة الانسان الرافض لكل عداوة وقبح انساني.. فلوحة سلوى التي قال عنها الراوي: (جاءتني سلوى وحطت بجناحيها المكسورين امامي.. كانت تفرح بمجيئي، جسدي ملاذها، وانا غارق في مياهي.. عطشت عيناي.. اتمتع بمشاهدة معروضاتها الفاتنة.. التهم بشراهة المحروم كل سمات البقاء.. هل تسأل الجائع لِمَ تأكل؟ كانت تأخذ رحيق رجولتي، وتوصيني ان اجلب لها رحيقاً آخر في الليلة المقبلة)ص15 الرواية، هذا النص يؤكد ان العلاقة بين الراوي وسلوى علاقة غير شرعية، يتبدى لك حتى وانت لم تكمل الرواية قراءة من خلال ايحاءات النص ودلالات الجمل التي كونته.. الجناحان المكسوران، جسدي ملاذها وعطش الراوي لمعروضاتها الفاتنة.. فلو كانت زوجته لما تحدث هكذا عنها.. ولماذا هي مكسورة الجناحين.. وهكذا فان الرواية اعتمدت السيمائيات وهي في حقيقتها» كشف واستكشاف لعلاقات دلالية غير مرئية من خلال التجلي المباشر للواقعة، إنها تدريب للعين على التقاط الضمني والمتواري والمتمنِّع، لا مجرد الاكتفاء بتسمية المناطق أو التعبير عن مكنونات المتن، وتبحث السيميائية عن المعنى، من خلال بنية الاختلاف ولغة الشكل والبنى الدالة. وهي لذلك لا تهتم بالنص ولا بمن قاله، و إنما تحاول الإجابة عن تساؤل وحيد هو كيف قال النص ما قاله ؟ ومن أجل ذلك يفكك النص ويعاد تركيبه من جديد لتحدد ثوابته البنيوية.. فلماذا هو عطش لجسد سلوى؟، ولماذا هي عطشى؟ ولماذا مكسورة الجناحين؟ وهكذا فالمتلقي يبحث عن ماهية ما وراء هذا!! وقد يكتشف الحقيقة لاسيما ونحن نقرأ رواية طرحت موضوعة الحرب، وما ادراك ما الحرب وخلفياتها النفسية الشديدة الوطأة؟ فمحسن هو نفسه الراوي يعيش حالة ازدواج وقلق مستمر.. يتحدث عن نفسه: (نصحتني كثيراً يا محسن ألّا اذهب الى سلوى، اليوم فرح وغداً تعاسة، وربما تكون الخسارة اكبر من الربح، كنت انهرك، انت ازدواجي انا الذي اردتك عونا لي، لان يستطيل الزمن والا تصبح سلوى مجرد حلم في ليلة باردة. في البدء كانت رغبتك اقوى وتلح عليّ بهمس شبق ان اذهب اليها، حتى لو كان لمجرد النظر الى مفاتنها، اكثر من عشر سنوات وانت تقرب صوراً الى احضانك في المواضع قبل اشتداد القصف لتنام بلا تفكير، كنت تقول لي انك معذور، لم تر في حياتك جسد امرأة عن قرب حتى حطت سلوى على شاطئ العطش )ص17الرواية، فهذه الحيرة والقلق، تظهر انه يحمل قيم وافكار وفي المقابل لا يستطيع الالتزام بها، أي انه يعيش ازدواجية في شخصيته، وتبايناً بين فكره وسلوكه، وسينعكس ذلك بطبيعة الحال على نظرة الناس إليه حيث يفقدون الثقة في أفكاره، إذا كان هو نفسه أول من يخالفها عملاً، فلو كانت تلك الأفكار تستحق الاحترام لالتزم بها صاحبها أولاً، والأنكى من ذلك أن الناس سيفقدون الثقة بشخصيته، لأنهم سيعدونه غير ملتزم وغير صادق، وبالتالي يفقد الانسجام بين الأفكار والأفعال، فالإنسان الذي يتبنى فكرة، ويبشر بها، ويدعو إليها، سيكون منسجماً مع ذاته، وصادقاً مع نفسه، متى انعكست على واقعه الفعلي،وعلى النقيض من ذلك، من يتحدث عن فكرة، ويدعو إليها، ولكنه لا يطبقها ولا يعمل بها، فمثل هذا الأخير يعيش حالة الراوي محسن في رواية الكاتب علي لفتة سعيد، فهو أي الراوي كاتب ومثقف، ويبحث عن التميز بين افراد المجتمع، لكنه يعيش حالة تأنيب الضمير من افعال هو لا يرغبها ولا يريدها، غير انه يفعلها.. كما في علاقته مع سلوى غير الشرعية، وقد يقرر ان خير خلاص منها هي الكتابة، ولكن تلك التي يحتاجها عصر ما بعد الحرب، بعدما تستقر الافكار والمواقف.. ويبدو ان شخصيات الرواية كلهم يبحثون عن التوازن واثبات الذات بما فيهم سلوى التي تجد توازنها النفسي بلذة الجسد، وهذا النص من الرواية يثبت هذا:(لم يكن السبب في توصلنا انا وسلوى لان نكون زبائن اللذة، او لنتحفظ بقدر كاف من مراهنة اثبات الشخصية، أعرف اننا كنا نشعر بنقص في جوانب الحياة) ص27الرواية،اذن الكل يبحث عن التوازن، والعلة هناك نقص سبب خللاً في الذات، ويبقى التساؤل مستمرا..(ما الفرق بيني وبين الصواريخ والطائرات وكل الاشياء التي احدثت الدمار والموت والعوق؟ ما الفرق بيني وبين من يسوقنا للحروب لنواجه الموت ليبقى؟) وهكذا تبقى التساؤلات متوالدة بين اسطر الرواية، والاكثر من هذا يقوم محسن بكتابة قصة سلوى وحبها لزوجها، وكيف فقدته حينما اصبح جسداً معطلا.. ويبرر لقاءه بها، كي يكتب قصتها، وقد يكون تبريرا غير مقنع بطبيعة الحال.. ويبقى الراوي يتحدث الى نفسه حديثا يستند على المتاهة، فانا قريب من الكاتب علي لفتة سعيد، وخبرت الكثير من رؤاه وتطلعاته نحو استعياب متناقضات الحياة ، فلا غرو ان اجده بأفكاره بين اسطر رواية (الصورة الثالثة) تارة مدافعا واخرى رافضا ومحاولا تسوية المتناقضات التي تعيشها شخصيات الرواية، وهذا عمل فكري، يحتاج لحنكة ثقافية وعمق فكري نير.. من هذا يخاطب الراوي نفسه قائلا: (نعم يا محسن، لقد اخذتني الحروب الى المتاهة.. كنت اريد ان اتخلص من كل ذاك الماضي، حتى انني لم اكمل القصة، تركتها بلا نهاية، هذه قصتي ايضا بلا نهاية، وما هو عليه الآن وضعنا بلا نهاية، لان المسدس مازال قرب الرأس.. اوراق كثيرة لهذيانات مزدوجة تُركت تحت اكداس المجلات، كأن نهايتها لا ترغب بالبروز ، تنتظر الحل، أي حل أنتظره؟ فالحلول مستعصية، لأنها تنطوي تحت رداء واحد من النتائج، هو ان تموت.. كيف لكاتب قصة ان يجعل بطله يموت؟ هذا يعني ان السواد سيملأ ذاكرة القارئ ولم يكن مرغوباً، وعليه فالواقع يريدك ان تموت، لأنها الحرب، اذا لم تمت لن يكون هناك انتصار)، هذه الجدلية الفلسفية التي يطرحها الكاتب من الرواية تنم بلا ادنى شك، انه قدى اكتوى بهذه الحروب، وتركت له ثروة من الافكار الجدلية، وبين كل فترة تتوالد الافكار وتتصاعد الاحداث ويصاحبها جدل اخر، لا يخبر هذه الافكار وهذا الجدل الا من تمرس وعاش اتون هذه الحروب.. وكيف ان يلم تشظي الزمن.. زمن الورق، زمن الحرب، زمن الصراع، زمن الازدواجية، زمن الارتباك، ونقل شعور ان الدنيا دخلت سم الخياط.. (ادخلت رأسها وبقيت محصورة ، فكيف تكون الحلول؟)ص97 الرواية، وقد يحيلنا الكاتب الى جدلية الصدق والكذب في البحث عن المعنى، والظاهر ان فلسفة المعنى تواترت من خلال المعنى الواقعي والاخر اللاواقعي، (فبينما يحلل المذهب الواقعي المعنى من خلال العالم الواقعي خارج الانسان، يحلل المذهب اللاواقعي المعنى من خلال قدرات الانسان وما يمتلك في داخله بدلاً من الاعتماد على الواقع خارج الانسان. من نظريات المذهب الواقعي نظرية الفيلسوف دونالد ديفدسون التي تعرّف المعنى من خلال قيم الصدق)، برغم أن كل هذه الأسئلة في الظاهر تبدو لنا بأنها تتمحور حول معنى خارج الإنسان إلا أنها تمسّ جوهر الإنسان، من حيث أنه هو الكائن المتسائل عن «المعرفة» لذا تعود بنا هذه الأسئلة إلى التساؤل الأول عن“إنسان المعنى” الذي يخلق لنا “معنى الإنسان” يرى مارتن هيدجر بأن الإنسان هو الموجود الذي يهتمّ بوجوده، لذا تاريخ الفلسفة هو تاريخ السؤال عن «معنى» الوجود الإنساني، بالإضافة الى ذلك، لا محددية المعنى تسمح لنا بالاستمرار في البحث المعرفي والعلمي بدلا من ان توقفه، وبذلك تكتسب فكرة لا محددية المعنى فضيلة كبرى، فبما ان من غير المحدد ما هي معاني المفاهيم والعبارات، لابد اذن من البحث الدائم عن تحديدها وهذا ما تقوم به الفلسفة والعلوم بنحوٍ دائم. وقد تضمنت الحداثة المتوالدة استمرارية البحث المعرفي وبذلك تكتسب مقبوليتها. من المنطلق ذاته.. اعتقد ان أي ابداع سواء كان شعري او قصصي او روائي او غيره، سيبقى مثار جدل ولا يمكن الاحاطة به البتة .. كما هو في رواية الكاتب علي لفتة سعيـد (الصورة الثالثة) ..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة