بعد وبعد…

لم ننتهي تماماً من تبعات عودة الفردوس المفقود (الخلافة) أو ما عرف بالدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) حتى أطلق السلطان الفيدرالي المنتهية ولايته على إقليم كردستان السيد مسعود البرزاني صافرته معلناً، الشروع بالانفصال عن “العراق الاتحادي الديمقراطي”، لندخل جميعاً (عربا وكوردا وتركمانا وبقية شعوب وملل هذا الوطن القديم) الى مرحلة جديدة، قد تتحول فيها حقبة داعش المريرة، الى مجرد مزحة مقارنة بما يمكن أن ينضح عن مثل هذه القرارات البعيدة عن الحكمة والمسؤولية. لا أحد من المتابعين الموضوعيين والمنصفين للمشهد الراهن، يمكن أن يصطف الى جانب أي من أطراف المحنة الجديدة التي أطلت برأسها علينا مع إصرار حاكم أربيل المطلق على إجراء استفتائه في الانفصال عن العراق، لا في بغداد ولا في أربيل. من يتابع بهدوء تطور الأحداث وتصاعدها التراجيدي، بمقدوره التعرف على الدور الذي نهض به وغف العواطف والانفعالات الخاوية، في انحدارنا السريع لمثل هذه السيناريوهات الخطرة. لا شيء يستدعي كل هذا الاستعجال لتحقيق (الحلم القومي) الذي لم يهدهد عواطف الكورد وحدهم بل سبقهم في ذلك العرب الذين هرولوا طويلا خلف ترنيمة (الأمة الواحدة والرسالة الخالدة) وحصدوا برفقة قومييهم وشوفينييهم ولصوصهم، ما تعرفونه جميعاً من خيبات وكوارث، ما زلنا ندفع فواتيرها الى يومنا هذا.
قد يتوهم البعض من الأصدقاء الكورد بأن زعماءهم (المناضلين) يختلفون عن زعماء القومية العربية من الذين تميزوا بالدكتاتورية واللصوصية وضيق الأفق، لكننا عندما نتمعن قليلاً بحال تلك (الزعامات التأريخية) للكورد نراها تتطابق تماماً في المنهج والسلوك والغايات النهائية، مع نظرائهم المسكونين بعشق (أولاد عدنان وقحطان). وهذا ما لا يختلف عليه إلا المنتفعين والمتطفلين على موائد تلك الحيتان الحزبية والسياسية النافذة، من الذين تعجز نظراتهم في التسلل بعيداً عن الفضلات التي تلقى لهم. أما بالنسبة لطرف المشكلة الآخر والذي يشكل الإسلامويون عموده الفقري، فبرنامجهم السياسي يعود بنا الى أغوار الماضي البعيد، فإن كان أصحاب التعويذات العرقية والقومية يسوقون مجتمعاتهم الى حقبة تشكل الدول القومية قبل أكثر من ثلاثة قرون، فتنظيمات (أنصار ومهاجري ما بعد الحداثة) يقودوننا الى مغارات القرن السابع الهجري وعصور ما قبل محاكم التفتيش. وهكذا سيتواصل الحصاد المر برفقة هذه القوى والعقائد والعقليات التي لا تطيق انفكاكاً عن ترسانة الهويات القاتلة. كل ما حصل لا مع لحظة استصال النظام المباد عبر المشرط الخارجي، بل قبل ذلك أيضاً، هو أشكال متجددة ومبتكرة للهروب من التحديات الواقعية التي تواجهنا جميعاً من دون تمييز على أساس اللون والرطانة واللافتات والخرق، تحديات التأسيس لمجتمع الحداثة والتعددية والحريات والحقوق، الكفيل وحده بانتشالنا من دوامة هذا الطفح من الفزعات الآيديولوجية والعقائدية الخاوية. لا يحق لنا جميعاً إلقاء اللوم في هزائمنا المتواصلة منذ عقود على شماعة الآخرين وطنطل (العدو الخارجي) ودسائسه المزعومة، ولن يجدي نفعاً هروبنا المستمر من مسؤوليتنا جميعاً (افراداً وجماعات، حشوداً ونخبا) في هذا التردي المتواصل لأحوالنا السياسية والاجتماعية والقيمية. نحن عبر منظوماتنا القيمية المتخلفة وسلوكنا البعيد عن المبدئية والمسؤولية، لم نسمح لتسلل وبقاء هؤلاء على سنام المسؤوليات وحسب، بل أعدنا إنتاجهم وتدويرهم في كل المواسم الانتخابية، لهذا سيكون أمامنا المزيد من مثل هذه الدقلات والاستدارات المتهورة…
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة