حافة الصدى

نبأ حسن مسلم

لم تهدأ منذ أن قرأت تلك الإعلانات الغريبة و المكررة بأنماط مختلفة .. حيث تحول كل شيء من مجرد حلم أو هاجس سخيف إلى لحظة مفصلية شعرت من خلالها بأن الكلمات المطبوعة بخط مائل و غامق تعنيها وحدها من دون غيرها , و تيقنت أخيراً بأن لديها هدفاً واحداً تعيش لأجله .
في ذلك النهار الخريفي البارد , جلست قرب النافذة المطلة على حديقة دارها الصغيرة كما اعتادت أن تفعل كل يوم، وهي تطالع مجموعة من الصحف المحلية بملل تام .. عندما وقع بصرها على التالي (( لا أعرف إن كنت ستقرئين هذه الكلمات أو لا .. لكني أريد ن أعثر عليك , أرغب برؤيتك مجدداً .. يجب أن نعود معاً كما كنا من قبل .. أنا و أنت فقط . قابليني عند قبره في أول يوم ماطر من هذا العام .. أعرف بأنك قد لا ترغبين بالحضور .. لكني سأنتظرك هناك . )) المطر , هذا الكيان الغامض , بدأ بافتراس صمت المكان . كانت قد وصلت للتو .. فتوقفت عند بوابة المقبرة المقوسة كجذع عتيق لتلتقط أنفاسها و ذكرياتها قبل أن تلج لهذا العالم الهادئ و المستسلم لنثيث المطر الذي أخذ يزداد بصورة تدريجية . كل مساء يعود حاملاً صحيفة أو جزءاً منها .. يعرف بأنها مغرمة بالرسوم الكاركتورية. هذه الرسوم تجعلها تغرق بضحكة طفولية رنانة .. لطالما جلسا لساعات طوال وهما يناقشان أسلوب الرسم والألوان المستعملة و بعدها يجربان مغامراتهما اللونية على قطع مجعدة من الكارتون الأسمر . كانت تحب الصفحات الخاصة بالأخبار الفنية .. لطالما تمنت أن تصبح ممثلة .. في إحدى الأماسي عاد لها، وقد فقد أحد أسنانه اللبنية مع كدمة زرقاء متورمة شوهت عينه اليسرى، أخبرها وهو يبتسم بصعوبة بأنه قد انتزع هذه المجلة من يد صبي يفوقه حجماً و شراسة حيث كان الأخير يروم اقتطاع صور الممثلات ليلصقها على دراجته !! شعرت ببرد غير طبيعي يغزو خلاياها، فأعادت ترتيب الوشاح الداكن فوق تضاريس جسدها قبل أن تتوغل إلى عمق المقبرة، بدا المكان موحشاً ومقفلاً بالأحزان كصندوق قديم , تقدمت ببطء وهي تتطلع لما حولها بانتباه تام و كأنها تنتظر إشارة من روح خفية لتدلها على وجهتها التالية . عدد من النسوة المعجونات بالحزن انتشرن كحبات دخن في قفص مهجور .. هذا ما استطاعت أن تلاحظه، وهي تتابع طريقها بحذر بين المسالك الضيقة و الزلقة . بدأت تقرأ ما تيسر لها من شواهد القبور، فأكثرها قد شاخ الزمن عليها وتراكمت فوقها طبقات لانهائية من الوحل والعشب الجاف .
استيقظت بها ذاكرة الأسماء على الرغم من إنها لا تعرف اسم من جاءت لتقف عند قبره ولا تريد أن تعرفه .. فاكتفت بالبحث عن اسم الجد الذي تمكنت من تذكره بصورة جزئية، توقعت أن تراه وأن تميزه، حيث ساورها شعور قويّ بأنها ستجده راكعاً عند القبر المطلوب وهو يبكي بحرقة و يضرب رأسه بأسى على شاهدة القبر بالرغم من كل الذي حصل، لكن قدرها لم يمكنها من الرؤية أبعد من خياراتها !! كان يظن بأنه سيعرفها لو تسنت له رويتها أو مخالطة عطرها الطفولي مجدداً .. فقد ابتكر لها رائحة الربيع و وجهاً أسمر جنوبياً بملامح حالمة، وقد أسس كل ذلك على أنقاض صورة لطفلة بعينين غائمتين بدموع اليأس ما زالت محشورة في قعر ذاكرته التي شحذها هذا الرسول السماوي .. المطر !!
كان يحب الصحف و المجلات أيضاً، وبالأخص التي تتعلق بالرياضة، طالما عثر على عدة صور تم قصها بعناية تحت وسادته .. صور لدراجين بزي السباق الرسمي والخوذ اللماعة المقلمة بالأسود والأصفر المتمركزة فوق رؤوسهم المشحونة بالحماس، لطالما تناقشا حول الموضوع بصورة جادة وهما يلوذان من البرد بمدفأة عتيقة .. حيث وعدها بأن تكون أول شخص يجرب الدراجة التي وعدوه بشرائها، دراجة ببدن معدني أسود ومصباح أمامي يرمش بالتزامن مع صوت إطلاق الجرس، تزينها شرائط ملونة وملصقات لطيور جارحة، لكنها لم تصل .. لم تصل أبداً !! واصل بحثه , تطلع إلى النساء وحدق بهن الواحدة تلو الأخرى، فوجدهن متشابهات بتلك الهالة الحزينة التي جللت ملامحهن و أضفت عليها مسحة من الوقار البارد، لم يدفعة إحساسه نحو أي واحدة منهن، فقد كنّ بالنسبة له كخيوط متشابكة تنتشر بغير انتظام في أرجاء المقبرة.
انه المطر .. أجل انه المطر .. ذلك اليوم الغابر كان ماطراً أيضاً .. طفلة بلون القمح تزعق بسخط متصاعد، جسدها محتجز داخل بيت شبه منهدم، صفع المطر وجهها بعنف عندما قذفت بيدها من نافذة مخلوعة المقبض محاولة لمس شعر الصبي المبلول و لو لمرة أخيرة، لكن يدها لم تصل، تماماً كما الدراجة !! ما زالت تتذكره ملتصقاً بالجدار، بوجه محشو بالخوف، في حين راح رجل أشيب يربط له شريط حذائه، تم سحبه من يده وهو يصيح باندفاع مبهم (( سترون كيف سأكون ذا شأن عظيم !! )) و بصق على الباب الصدئ قبل أن يغادر إلى غير رجعة . ما زالت تتذكره .. ذلك الصبي، ذلك الأخ الذي راح يكبر في مخيلتها كغيمة برية و ها هي هنا تنتظر أن تراه مجدداً ليدخلا بنقاش جاد حول الرسوم الكاركتورية , صور الممثلات، وسباقات الدراجات . ياه .. تلك الأيام عندما كان الفرح يتقوس بانعكاسات مرنة على ثنايا وجهها الصغير .
غسل المطر شاهدة القبر الذي تقف عنده , فاكتشفت بعد مطالعة الاسم بأنه ليس الموقع المطلوب .. و يبدو بأن الأمر ذاته قد حصل معه , فانطلق كل منهما باتجاه جديد مطارداً صدى حلم طفولي من الليمون و السكر، لعلهما يلتقيان ذات يوم على ظهر دراجة ملونة أو بين طيات صحيفة تحوي رسوماً هزلية .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة