علوان السلمان
لقد انطلق باختين في بناء تصوره للرواية novel من منطلقين اساسيين: اولهما التحليل اللساني(التداولي)..وثانيهما التحليل السيميائي الممزوج بالمنظور السوسيولوجي..بصفتها بنية سردية يقوم معمارها على فكرة تتفاعل والصراعات الموضوعية في امكنة تتفاقم فيها الاحداث المنصبة في حكائية حددها جولدمان بانها(رحلة في عالم اشكالي يبحث عن قيم انسانية في عالم متفسخ).. كونها تقترن بازمة الذات وتصاعد الصراعات الداخلية وتفعيل الذاكرة كي تفعل فعلها في حيزها الوجودي الذي يستدعي المنتج(السارد) لنسج عالم قائم بذاته مستمد لطاقته من مفاصل الحياة بتآلف جامع لمستويات عدة واجناس متعددة ولغة اجتماعية يومية متنوعة تنوع البيئة المكانية والثقافية..لذا فهي نص المتناقضات بتلاحم الفكري والتاريخي والسايكولوجي والجمالي واللغوي.. لتشكل جماع خطابات تكوينية يتمتع كل خطاب فيها ببنية واسلوب ووظيفة يؤطرها اطار الوحدة العضوية(وحدة الحدث)..
وباستقراء النص الروائي(صورة جانبية للخريف) الذي نسجت عوالمه الرقمية التي تستدعي المستهلك للاسهام في عنونتها انامل الروائي حسين محمد شريف..واسهمت دار الجواهري في نشرها وانتشارها/2017..كونها عوالم مشهدية يشكل المكان بؤرتها المركزية التي لملمت خيوطها ودونتها ذهنية منتج واع ومتمكن من ادواته السردية للتعبير عن حقب زمنية ومتغيرات الحياة كشف عنها الاهداء النص الموازي المتمحور حول احداث حققت وجودها وتركت آثارها النفسية والمجتمعية والسياسية والاقتصادية بلغة لا يكتفي بكونها اداة توصيل وانما تنزع الى المعنى الدلالي الذي يكمن في السياق الذي تتفاعل في عوالمه اللفظة التي تمتلك معنى متميز عن معناها القاموسي بتملكها سمات متفردة ومعان دلالية..فضلا عن انها تعتمد اسلوب استرجاع المحكي واستلهام اسلوب الكتابة التاريخية ومسرودات الاخبار والسير والرحلة مما جعل السرد ينصب في خانة الواقعية التاريخية التي يتلبسها في بعض مفاصلها نوع من الايهام والغرائبية لكسر رتابة التوقع باعتماد مقاربات اجتماعية مع توظيف امكانات التشكيل الذي يتملكه الروائي من تفاصيل الحياة مستخدما له من التقنيات الفنية(لغة دالة ومدلول رامز وقراءة تنطلق من واقع اجتماعي كي تحقق الانتقال من التسجيلية الى الروائية الفنية بلغة تصنع الغرائبي من المألوف وتجمعه في بؤرة عالمها السردي(خان وردة)المليء بالحركة والحيوية المتدفقة التي تحمل بين طياتها عمق الدلالة النفسية بقوة تعبيرية مكتنزة بروح التمرد للخروج من التخييل..حتى ان السارد يتحول من الانا الذاتية(المنولوجية) الى الانا الموضوعية(الديالوجية) باستبدال الخطاب الداخلي بالخارجي المتوهج بصوره التي تسبح في عوالم الوجود عبر الانا التي تنفذ بشكل عميق في الانا الآخر..بصفتها(نوع من انواع العمل الاجتماعي) على حد تعبير غيورغي غامشف..عبر الحضور المكاني لـ (خان وردة) الذي يمنح النص التميز كونه يشكل شبكة من الاحياء(حي منير أغا القائم على النهر بوصفه ذي طابع تجاري/حي نادر افندي الذي تميزه المدرسة الوحيدة في خان وردة/حي الزورخانة الذي يتميز بهذه اللعبة والحمام الكبير بشقيه(الرجالي والنسائي)/ حي قدري قزانجي المعروف بسوقه المختصة ببيع الاشياء القديمة/حي الزنابيل الشهير بعيادات الاطباء فحي الدباغة واخيرا حي الباشات..)..المتميزة بعلاقاتها ورؤاها التي تتضامن مع بعضها لتشييد الفضاء الروائي الذي لا يتحقق الا من خلال حركة الشخوص فيه وتفاعلها معه من خلال الراوي السارد(غاوي عبدالحميد السهل) الذي شكلت ذاكرته روح السرد..التي يحولها الى محكيات متفاعلة تتبادل الانعكاس في الخطابات المتباينة مع حضور مكثف للذات والذات الجمعي الآخر باعتبارهما المحركان للحدث.. مع نص مواز للسنوات التي تبدأ برسم حدود العراق مرورا بالاحتلالات والثورات وانتهاء بالحرب العراقية الايرانية (1900/1914/1923/1958/1963/1968/1980..).هذا يعني ان السارد يمنح المكان اهمية خاصة تجرنا الى شولوخوف في الدون الهاديء وسهيل ادريس في الحي الاتيني..مع صدق التعبير عن مجتمعه والقيم الانسانية وصراحة مع الذات في نقل ما يجري في البيئة المحلية من وقائع وشخوص وحوار..
(تقصت ميرجان الحقائق عن حياة آق باشي واكتشفت بانه لقيط مؤكد بحسب رواية كميلة السهل زوجة عبدالحميد السهل جارتها الحائط على الحائط والتي حكمتهما عرى صداقة جميلة تخللتها المساعدات الدائمة خصوصا في شؤون الطبخ..حيث روت السيدة كميلة كما سمعت عن ابيها عبدالرحمن السهل مختار خان وردة روايته المؤكدة خصوص آق باشي الذي وجد مرميا بقماطه قرب احدى مزابل حي الباشات ..)..ص13..
وكل هذا يندرج تحت عنوان شكل عتبة نصية ومفتاحا تأويليا يسبر اغوار النص بفونيماته الثلاثة المشكلة لجملة اسمية وفضلة..بتأملها نجد انها مركبة من مكونين متضادين: اولهما مكون صوري(ستاتيكي) ـ الصورة ـ وثانيهما مكون زماني(دينامي) ـ الخريف ـ وبتداخلهما يشكلان لوحة ذات طبيعة ايحائية محملة بالدلالات والرموز تدل على بنية ارتكازية تقدم تركيبة عقلية وعاطفية في لحظة من الزمن )على حد تعبير ازرا باوند..
(لقد كانت ذاكرة غاوي عبدالحميد السهل حية على امتداد تاريخ خان وردة..فهو الرجل المولود فيها أبا عن جد كما كان يفاخر دوما امام الناس حين يظهر وثيقة الاحتلال العثماني العائدة الى حقبة سليمان باشا الكبير..وقد كانت عائلته تشغل وظيفة مختار خان وردة لعقود طويلة..وتعد واحدة من اهم العائلات في خان وردة..وبالرغم من قدمها وعراقة منبتها الا انها لم تستطع المضي قدما في الاعمال التجارية وتطوير واقعها المالي دون المتوسط لالتزامها باخلاقيات العمل والتمسك الشديد بالمصداقية..الامر الذي ادى الى خساراتها المتوالية(بالنسبة للاجيال الاولى من عائلة السهل) مما دفع بابناء هذه العائلة الى العمل الحكومي والميل للتعليم عوض التجارة فيما قلة قليلة منهم وابرزهم غاوي السهل انساقوا وراء اعمال وضيعة لا تتناسب وسمة آل السهل نظرا لاخفاقه المستمر بالدرس الملاتي السائد في خان وردة كمدخل اولي للتعليم وما تزال ذاكرة غاوي ملتهبة بوقائع الزمن الصاخب الذي عاشه سيما ذلك الزمن المرتبط بفتحية احدى اجمل النساء في خان وردة..
حدث ذلك قبل اكثر من ثلاثين سنة من اليوم حين تزوجت فتحية ابنة آق باشي وهو من بقايا العثمانيين الذين انقطعت بهم السبل بعد انتهاء الحرب ليصبحوا مذعنين للامر الواقع بالبقاء في خان وردة والمكوث بها(كأبناء منحوا كافة الحقوق) عموما فقد تزوج الملا طه من فتحية رغم فارق السن البالغة اكثر من اربعين عاما بينهما..اذ كان عمر فتحية يومها اربعة عشر عاما فحسب فيما كان الملا طه يناهز الخامسة والخمسين.) ص10 ـ ص11..
فالنص يستدعي الحضور المكاني الذي منحه صفة التميز..كونه يشكل شبكة من العلاقات والرؤى التي تتضامن مع بعضها لتشييد الفضاء الروائي الذي لا يتحقق الا من خلال حركة الشخوص وتفاعلها معه ليقدم قيمة فنية مضافة لارتباطه بالذاكرة الجمعية من جهة والاحتفاظ بدلالاته الايحائية وطاقته التعبيرية من جهة اخرى.. فضلا عن انه يسهم في تصعيد السرد..ومن ثم منحه صلة الاقتران بالذاكرة بصفته ظاهرة تسجل ذوبان اللغة المحكية بدلالاتها واضفاء التعالق الحرفي في وحدته..فضلا عن انه يحمل في طياته عمق الدلالة النفسية بقوة تعبيرية مكتظة بروح التمرد للخروج من التخيل الحلمي.. بلغة تشكل اسلوب التواصل عبر الحركات والايماءات مع استثمار الفعل الذي ينطوي على بعدين متداخلين:اولهما حدثي..وثانيهما زماني معبر عن رؤى يسعى السارد الى تحقيقها وهو يحتفي بالمكان بوصفه احد عناصر العلاقات النصية(الزمان/الشخصية/الرؤية/زاوية النظر..)بانتزاع مشاهده المتزاحمة بالشخوص والاحداث والذكريات فيكشف عن العلاقة التفاعلية التي تنشأ زمانيا ما بين الذات المنتجة ومكانها المشخصن على المستوى التصويري عبر الذاكرة التاريخية والثقافية..كونه فضاء سردي ونفسي ووجداني يعبر عن حالة ترتكز على فعل التذكر واعتماد عنصر الخيال..اذ يخرجه المنتج من حيزه المغلق الساكن الى فضاء دينامي يتجاوز الحدود بتوظيف تقنيات فنية كالتنقيط(النص الصامت) الذي يستدعي المستهلك للاسهام في بناء النص بملء بياضاته..اضافة الى اعتماد تقنيتي الاستباق والاسترجاع..فيعلن عن تجليات الذات وصيرورتها من خلال افراز الوعي الجدلي الناتج من التضادات..
(صار وصفي معلما واستسلم لحياته بعد ان تزوج بواحدة من اقربائه ليعيش عزلة خاصة في مكتبة بيته الكبير وسط تذمر زوجته الدائم..
ماتت قدرية لتكون آخر ابناء خان وردة او الحي الاوسط كما صارت تعرف اليوم..ماتت لتكون من اللواتي شهدن تحولات الحياة لتصبح الراوية المعتمد عليها بالسؤال عن كل الاشياء..
وعلى مسافة غير بعيدة كثيرا من ضريح ابيه المتوفى قبل عقدين وقف بنحو يثير الشفقة حد الملل يراقب جثمان امه حين كانت توارى التراب بعد صراع طويل مع المرض
ولعلها من اسوأ اللحظات التي يقف فيها المرء بمواجهة فقدان من يحب ولا يكون بمقدوره مد يد العون اليه او المواساة لنفسه على اقل تقدير..ولا ينتهي الاحساس بالفجيعة عند ذلك الحد بل يمتد عميقا داخل الروح سيما اذا ترافق ذلك الاحساس
ص138
فالنص يكرس دلالات انسانية عميقة في حالة صيرورة دائمة ونمو من الداخل يكشف عن حركة زمنية ومتغيرات شيئية من خلال التحكم بجزئيات المحكي ووضعه تحت سلطة التخيل الذي يبني تصوراته على النسق القيمي..فضلا عن انفتاحه على تقنيات السرد البصري الذي يستدعي المكان..الوعي الفكري للذاكرة..والحاضنة للفعل المنتج للسرد بمشاهده المتوالدة من بعضها البعض بمخيلة مكتظة بالمعطيات الحسية التي يتفاعل معها المنتج بوعي كلي ولغة محكية عبر خطاب الذات ومناخاتها…
وبذلك استطاع الروائي بصفته جزء من منظومة ابداعية الارتقاء بدلالة النص الى المستوى الذي يحقق انزياحات في تكثيف المشهد وتجاوز الوحدات الارسطية بالخروج عن النمطية والانتقال الى نبض الكتابة وهاجسها الجمالي المستفز للذهن والنابش للذاكرة بلغة حاملة لقلق مجتمعي متحول باستمرار لخلق نمطية سردية تبحث عن حريتها التي هي(وعي الضرورة)..عبر منظومة لغوية لها خصوصية السرد والحوار والوصف.. فكان المنتج(السارد) صادق التعبير عن مجتعه والقيم الانسانية ونقل ما يجري في البيئة المجتمعية..