نحو عراق جديد سبعون عاماً من البناء والإعمار

الحلقة 20
هشام المدفعي
اعتادت الصباح الجديد ، انطلاقاً من مبادئ أخلاقيات المهنة أن تولي اهتماماً كبيرًا لرموز العراق ورواده في مجالات المعرفة والفكر والإبداع ، وممن أسهم في إغناء مسيرة العراق من خلال المنجز الوطني الذي ترك بصماته عبر سفر التاريخ ، لتكون شاهداً على حجم العطاء الثري والانتمائية العراقية .
واستعرضنا في أعداد سابقة العديد من الكتب والمذكرات التي تناولت شتى صنوف المعرفة والتخصص وفي مجالات متنوعة ، بهدف أن نسهم في إيصال ما تحمله من أفكار ورؤى ، نعتقد أن فيها الكثير مما يمكن أن يحقق إضافات في إغناء المسيرة الإنمائية للتجربة العراقية الجديدة .
وبناءً على ذلك تبدأ الصباح الجديد بنشر فصول من كتاب المهندس المعماري الرائد هشام المدفعي ، تقديرًا واعتزازًا بهذا الجهد التوثيقي والعلمي في مجال الفن المعماري ، والذي شكل إضافة مهمة في مجال الهندسة العمرانية والبنائية وما يحيط بهما في تأريخ العراق .
الكتاب يقع في (670) صفحة من القطع الكبير، صدر حديثاً عن مطابع دار الأديب في عمان-الأردن، وموثق بعشرات الصور التأريخية.
مرض زوجتي سعاد في فترة الحرب
خلال الاشهر الاولى من الحرب ، كانت الغارات الايرانية على بغداد مستمرة ، والالتزام بتعليمات الدفاع المدني قائم ، ولا يمكن الاخلال بذلك . ومنها توقف الاعمال اثناء الغارات الجوية . وفي هذه الفترة تسلمنا عطاء تنفيذ مشروع نصب الشهيد من قبل شركة ميتسوبيشي اليابانية ، فبدأنا نجتمع في قاعة الاجتماعات لدائرة التصاميم للتفاوض حول شروط قبول العطاء ، وكانت بمايقرب من ( 42 ) مليون دينار عراقي ما يقابل ( 130 ) مليون دولار امريكي .
كان ذلك في كانون الثاني 1981 ، حيث يشتد البرد ، ولم تحتوِ قاعة الاجتماعات في دائرتنا على وسائل التدفئة وتنقطع الطاقة الكهربائية فتنعدم الانارة طيلة فترة الغارة الجوية ، فنبقى جالسين في غرفة الاجتماع المعقود برئاستي ، والطائرات الايرانية تغير منخفضة على مطار المثنى القريب من دائرة التصاميم . رأس وفد ممثلي ميتسوبيشي مدير عام الشركة الثانوية المتعاقدة مع ميتسوبيشي وهي شركة ( كاجيما ). ولتسهيل مهمته في الاجتماع كان يخرج من حقيبته مصباح انارة يعمل بالبطارية ، ويضعه في جيب سترته الامامي ، ويدرس الوثائق التي امامه . اما تدفئة نفسه فقد كان يخرج من جيبه اكياساً بحجم الكف ، ويدلكها بيديه ويضعها داخل الثوب او السترة ، فتقوم المواد الكيمياوية داخل الكيس ببث الحرارة . اما نحن فلم يكن لدينا غير الفانوس للانارة ! . استمر الاجتماع ولم يوافق المقاول على الاتفاق النهائي الا بعد ان ينجز المختبر الذي عهد اليه فحص التربة التي يقوم عليها المشروع ، للتأكد من عدم الحاجة الى ركائز . وقد وثقت من ان هذا المقاول له امكانات علمية وفنية لانجاز المشروع .
في خضم هذا النشاط والتحضيرات الرئيسية لمنهج تطوير بغداد ، واعتماد قيادة الدولة مبدأ تطوير الاقتصاد العراقي لدعم الجهود العسكرية في الجبهة ، والتوسع بالأعمال الجديدة لتشغيل العمال والسوق العراقية ، ازدادت الغارات الجوية على بغداد ، واصوات الدفاعات الجوية التي ابلت بلاءً حسنا . وكنا نخرج الى حديقة دارنا لمشاهدة ما يحدث في سماء بغداد ، غير ان الرعب كان يصيب زوجتي سعاد من اصوات الانفجارات وصافرات الانذار واخبار الحرب ، وكنت اشعر انها تود اللجوء الى مكان تحت سلم البيت ، كونه الموقع الآمن في حالة قصف المناطق السكنية ، الا انها ــ رحمها الله ــ كانت لاتظهر خوفها خجلا على ما كنت اشعر به ، فتلجأ الى جانبي وتحتمي بي في هذه الاوقات الحرجة . ولعله شعور الكثيرين يومئذ .
انفجر في احد الايام صاروخ في سماء المنطقة التي تضم مكتبنا دار العمارة في شارع المغرب ، فتكسر زجاج الشبابيك في المكتب والدور القريبة منه . كما وقع العديد من اطلاقات (الكاتيوشا ) على سطح دارنا وممرات الحديقة في بيتنا بالمنصور ، وفي الدور الاخرى ايضا . كانت اصوات انفجارات هذه العمليات العسكرية ، قد ارعب زوجتي سعاد كثيرا .. ولكن ، اين المفر والعراق في حالة حرب ؟ .
شعرت زوجتي بضرورة زيارة صديق العائلة الدكتور خالد القصاب لاجراء الفحوصات . وبعد الفحص الدقيق اعلمها القصاب بانه وجد غدة غير طبيعية في ثديها الايمن ، ويشك ان تكون هذه غدة سرطانية ، ومن الضروري ازالة الثدي وارسال الغدة لفحصها والتاكد من المرض . اثبت الفحص المختبري لدى مختبر د. عبد السلام محمد ومختبر د. الجواهري ، ان هذه غدة سرطانية ، وعلى زوجتي استخدام العلاج بالاشعة . ولما كانت الحرب قائمة والمستشفيات مشغولة بالمجهود العسكري ، فلا يمكن الحصول على العلاج بسرعة وسهولة . وكان سفرها الى لندن للعلاج بالاشعة امرا لامفر منه .
طلبت مني زوجتي ان ارافقها بالسفر الى لندن ، الا اننا اتفقنا امكان الاعتماد على اختها ( هدى ) لمساعدتها هناك في لندن ، ذلك لاني باشرت بعملي منذ اشهر قليلة مع امانة العاصمة ، وليس من المناسب ترك العمل في بغداد . واخيرا ودعتها وهي تغادر بالباص على الطريق البري الى عمان . كنت ارى ان زوجتي سعاد لها من الخبرة والقوة ما يمكنها من الاعتماد على نفسها .
كانت عملية الاستملاك وهدم الدور والبنايات المستملكة مستمرة في بغداد ، على محاور شارع حيفا من ساحة جمال عبد الناصر قرب الاذاعة والتلفزيون . وللاسراع في ذلك كنت الاحظ مدير الحسابات السيد ماجد الكبيسي على كرسي مؤقت جالسا في احد المواقع وبزاوية احد البيوت في شارع حيفا محملاً بكل الصلاحيات من الاتفاق والصرف عن استملاك الدور ، تفاديا لأي تأخير بسبب اعتراض احد من سكان المنطقة على مبلغ التعويض او ما يصيبه من اضرار . كما كان السيد ماجد مخولا ببيع انقاض الدور المستملكة من شبابيك وأعمدة وافاريز ومحجرات ، فضلا عن الطابوق الذي يعود بعضه الى القرن التاسع عشر في محلات الكرخ القديمة . كان الطابوق المستعمل يباع بسهولة لكثرة الطلب عليه ، ولعدم كفاية الطابوق المنتج في تلك الفترة التي شهدت عملية بناء واسعة . اما الأعمدة والابواب والشبابيك القديمة ، فكانت تشكل مواد تراثية جميلة ، يرغب الكثيرون باقتنائها وتجديدها ، واستخدامها في الابنية الحديثة كعناصر تراثية .
لم تكن معاونية الانشاءات ومديرية التصاميم هما الدائرتان الوحيدتان في امانة العاصمة ، دخلتا في الاعمال التطويرية لمدينة بغداد . بل كانت هناك عملية تطويرية كبيرة تجري لتبديل البنى التحتية وشبكات الخدمات ، وتشترك فيها جميع معاونيات ودوائر الامانة على عهد السيد سمير الشيخلي ووكيله السيد خالد الجنابي . كانت لدى مصلحة ماء بغداد خطة واسعة لانشاء محطة تصفية ماء الكرخ بكلفة نحو (350 ) مليون دينار ، ومد شبكات انابيب ( دكتايل ) ، وتبديل بعض الشبكات القديمة من مادة ( الآهين ) الى (الدكتايل) ، بكلفة 380 مليون دينار . ولا يخفى انها كانت مبالغ كبيرة في الثمانينات من القرن الماضي . ولم يباشر بعد في اعمال محطة التصفية وشبكة انابيب الماء في الرصافة .
اما مصلحة مجاري بغداد ، فكانت لديها خطة عمل تتضمن انشاء محطات تصفية لمجاري المياه القذرة في الكرخ والرصافة ، ومد انابيب هذه المياه في معظم مناطق العاصمة . كما كانت لدى مصلحة كهرباء بغداد ومصلحة التليفون فيها اعمال مماثلة لتبديل شبكاتها لجميع احياء بغداد . اما اعمال الطرق فقد عملت معاونية الطرق في امانة العاصمة بعد اكمال مد شبكات الماء والمجاري الجديدة ، على اعادة تبليط معظم طرق المدينة . وعملت على فتح عدد من الطرق السريعة في جانبي الكرخ والرصافة ، وعملت على تحقيق اكمال تبليط الحلقة الداخلية الاولى والحلقة الثانية من طرق المرور السريع بموجب التخطيط الاساسي للمدينة .
يعود الفضل في تسهيل العمل على كل هذه الشبكات الخدمية الى عمليات التخطيط الاساسي للمدينة في ستينات وسبعينات القرن العشرين ، وقيام امانة العاصمة على منح اجازات البناء وفق محاور الطرق المثبتة في التخطيط الاساسي لمدينة بغداد حيث ان محاور الطرق السريعة كانت موجودة ولم يشيد عليها ولا يتطلب استملاك جديد .
وتبع كل هذه الاعمال في فترة لاحقة ، وضع نظام جديد لترقيم الدور والمحلات والاحياء في مدينة بغداد ، وايجاد شبكة كاملة من نظام الترقيم البريدي للمدينة تعتمد رقم الدار ورقم الزقاق ورقم المحلة واسم الحي ، وان تكون احياء الرصافة تحمل الارقام الزوجية ، واحياء الكرخ تحمل الارقام الفردية . وكلفت شركة بول سيرفس البولونية بالقيام بمسح موقعي كامل لكل طرق مدينة بغداد ،وتسقيط جميع الشبكات المذكورة على مخططات شوارع المدينة و ارصفتها وتثبيت مواقعها ، واعتمادها كمرجع وحفظها كوثائق مهمة في دوائر الامانة .
لم يكن رفعة الجادرجي مقتنعا بالتصاميم المعمارية الموضوعة لعدد من المشاريع ، وهي : مشروع اسكان السيدية (2000 وحدة سكنية ) ، ومشروع شارع الخلفاء ، ومشروع عمارة مكاتب ووقوف السيارات في الباب الشرقي . على الرغم من ان هذه المشاريع احيلت الى المقاولين لتنفيذها ، بموجب خرائط وجداول كميات واسعار تنافسية اتفق عليها . وقد كلفت شركة ( TAK Architects Collaborative ) الامريكية، وهي من الشركات المعمارية والاستشارية العالمية الكبيرة ، بإعادة وضع التصاميم لمشروع اسكان السيدية ، ليكون تشييد الوحدات السكنية باستعمال قوالب كونكريتية قياسية رئيسية مسبقة الصنع ، لا يتجاوز عددها ( 6 ) قوالب لتسهيل عمليات الانتاج والاسراع بها . اما مشروع ابنية شارع الخلفاء الذي احيل الى شركة Energoproject ) ) اليوغسلافية كاملا ، فقد احتجت الشركة العامة للمقاولات على احالته الى الشركة اليوغسلافية وحدها ، وعدم دعم المقاولين العراقيين ، فتم تقسيمه الى قسمين ، احدهما احيل الى الشركة العامة للمقاولات التي يديرها عدنان القصاب ، والثاني الى الشركة اليوغسلافية ،وتم اعادة كتابة العقود وتوقيعها وباشرت الشركتان باعمالهما . ابدعت الشركة اليوغسلافية وتلكأت الشركة العامة للمقاولات لعدم توفر الكادر الهندسي الكفء لادامة العمل.
بانتهاء فترة التعاقد مع الشركة اليوغسلافية انجزت مهامها بتشييد (6) عمارات في شارع الخلفاء وساحة الميدان الا ان الشركة العامة للمقاولات لم تستطع لحد الآن انشاء اكثر من الركائز في الجزء العائد لها .
وتقرر اعادة تصميم بناية مكاتب ووقوف السيارات في الباب الشرقي ، وأنيط ذلك الى استشاري معماري يوناني . كان هذا التغيير إجراءً غير مسبوق ونادر ، فقد اضاف أعباءً معقدة وطويلة على اجراءات الاتفاق والتعاقد مع المقاولين ، من ناحية الاسعار او المواصفات الجديدة واكمالها بنفس مدة العقد وكلفته . غير ان روحية الاندفاع والتحدي التي كانت غالبة علينا في تلك الفترة ، مكنتني من تحقيق الهدف واكمال تنفيذ العقود وتسلم الاعمال بدون صعوبة تذكر.
****
الحرب العراقية الإيرانية وهرب الشركات من ساحات الحرب
كانت اجواء الحرب تميل لصالح العراق ، ولاسيما بعد سيطرة الطيران العراقي على الاجواء وانهاء الغارات الجوية على بغداد وغيرها من مدن العراق . فبدأت الجهات المقاولة التي تركت الاعمال بموجب العقود المبرمة معها ، الاتصال بنا بعد معرفتها بتغيير الادارة الفنية للمشاريع ، ووجودي مع رفعة في القيادة الفنية في امانة العاصمة ، فتمت محاولات جديرة بالتسجيل .
كان مشروع جزيرة بغداد السياحية محالا الى شركة Yit الفنلندية ، وهو مشروع واسع ، يضم عددا كبيرا من الابنية ، وتطوير الجزيرة كلها ، وانشاء بحيرة كبيرة ، وبرج عال للماء . وينفذ عن طريق ما يسمى تسليم المفتاح Turn Key) ) . كانت اعمال المشروع في مراحلها الاولية كالمسوح والتحضيرات وبناء مساكن المهندسين والعمال ، فبحثنا الظروف المستجدة في المشروع بسبب الحرب وتأثيرها على العقد المبرم وكلفة الاعمال . ولما كانت عقود تنفيذ المشاريع تتضمن فقرة الظروف الطارئة ، فقد تم الاتفاق مع المقاول الفنلندي على ان تدرس تلك الظروف ومعرفة تأثيراتها على كلفة الاعمال وسلامة العاملين . لقد خسرنا ثلاثة اشهر من مدة العمل بسبب توقف العمل كليا في المشروع قبل ان يتم الاتفاق على عودة المقاولين .
مشروع حيفا / 8 ، هو الآخر يجري تنفيذه بطريقة تسليم المفتاح ، ويتضمن انشاء 9 عمارات ، كل واحدة تتكون من 15 طابقا فوق الطابق الارضي . يشترك في تنفيذها مقاول رئيسي ، هو شركة هولندية ، ومقاول اردني له حصة زهاء 20% من حجم المشروع . بسبب اندلاع الحرب والغارات الجوية هرب العمال ومهندسي المقاول ، وبعد تاكد المقاول من انتهاء تلك الظروف وعدم عودتها ثانية ، حضر المقاول الاردني ، وحاول انتهاز الظروف وعدم وصول الهولنديين ، فطلب الغاء العقد معهم والتعاقد معه فقط . لم ار الامر مشروعا فلم اوافق على ذلك المقترح ، وطلبت حضور الشركاء الهولنديين ، فحضروا فعلا . وهكذا اطمأن المقاول باننا سننظر بالظروف المستجدة وتاثيرها على مسارات العمل ، وتم الاتفاق على عودة المباشرة بالعمل وانجز المشروع بنجاح .
اما الشركة البريطانية دورش التي كانت تشيد لأمانة العاصمة الكراجات ، فقد فر مهندسوها تاركين بغداد عند بدء الغارات الجوية الى الحدود العراقية الاردنية ، غير ان مسؤولي الجوازات في الحدود لم يوافقوا على مغادرتهم لعدم حصولهم على سمة المغادرة ، فاضطروا للعودة الى بغداد ، فوجدوا ان الامور طبيعية وتسير على وتيرتها الاعتيادية ، فعادوا الى العمل ثانية ، واستمروا حتى انجازه بعد اربعة اشهر . زارني احد مهندسي الشركة البريطانية وقال لي انه يشكر شرطة الجوازات في الحدود ، وانهم لو سمحوا لهم بالمغادرة ، لما كان باستطاعتهم اكمال العمل . تم تسلم العمل وسددت مستحقاتهم الاخيرة ، فغادروا العراق بيسر وسعادة .
تسلم مهام معاون أمين العاصمة للإنشاءات
صدر في منتصف 1980 امر امانة العاصمة بتعييني معاونا لامين العاصمة للانشاءات ، وكان وكيل الامين خالد الجنابي يشغله وكالة . تسلمت الدائرة وتعرفت على مشاريعها والعاملين فيها . كانت معاونية الانشاءات تضم قسمين رئيسيين هما : قسم التنفيذ المباشر وقسم المقاولات . ويعمل القسم الاول على تنفيذ عدد من الاعمال الصغيرة كالابنية المختلفة في الحدائق والباركات والساحات ، وله كادر عمالي ومكائن ومعدات وموازنة خاصة باعماله . وكان عليّ ان اوجه رئيس هذا القسم حسب مسؤولياتي . اما قسم التنفيذ للمشاريع ، فيعمل على عدد من الاعمال الكبيرة مثل عمارة وقوف السيارات في شارع الرشيد ، وانشاء بناية واسواق ومكتبات في شارع المتنبي ، وابنية اخرى في مختلف انحاء بغداد .
كان دوام السيد خالد الجنابي في هذه الدائرة لايتجاوز الساعة في اليوم . وكانت زيارات امين العاصمة لدوائره المختلفة فجائية ، فإن لم يكن مسؤول الدائرة او مدير الدائرة موجودا فيها ، فأنه سيتعرض الى عقوبات صارمة وإهانات من قبل الامين . ولم يكن خالد الجنابي باقل من الامين حدة ولساناً لاذعاً تجاه موظفيه . فكان موظفو الامانة يخشون لسانيهما ويتهيبون حضورهما . اتذكر ان مدير الادارة في معاونية الانشاءات ، كان قد التحق بقطعات الجيش الشعبي في احدى جبهات القتال مع ايران . وعند عودته في احدى اجازاته ، سألته عن اخبار الحرب ، فاجابني ان وجوده هناك ارحم من وجوده في الدائرة ، فقلت له مستغربا : لماذا . اجابني بلا تردد : ان العدو في جبهة واحدة امامك ، لكن في امانة العاصمة لانعرف اين جبهة قتالنا ومتى ؟ وهو يعني مجازا لسان امين العاصمة ووكيله !
كان سمير الشيخلي امين العاصمة ، وبسبب ظروف الحرب ، يقوم باعمال نائب القائد العام لقوات الجيش الشعبي ، اضافة الى عمله في الامانة . لذا كان ذلك يتطلب منه الحضور في الساعة السادسة صباحا يوميا في معسكر التدريب في النهروان – الصويرة التي تبعد عن بغداد بنحوخمسين كيلو مترا . فيغادر بغداد عند الخامسة صباحا ، وياكل فطوره البسيط وهو بالسيارة ، ويعود الى بغداد مع مباشرة موظفي الامانة بأعمالهم . يقوم سمير الشيخلي بأعماله بشكل يختلف عن موظفي الدولة الآخرين ، فعندما كنت ازوره في مكتبه الخاص في ديوان امانة العاصمة ، الاحظ عدم وجود اي اوراق او اضابير او خرائط او مراسلات على منضدته . لقد كان مستمعا جيدا الى حديث الآخرين ، ويزور معاونيه او مساعديه في اوقات محددة للتداول معهم في مختلف قضايا العمل ، وبيان رأيه بذلك ، والموافقة على ما يتطلب موافقته رسميا .
ذكر لي يوما ونحن نتحدث في حديقة دائرة التصاميم ، بأنه يخولني صلاحيات كاملة لادارة اعمالي . وبعد يومين صدر الامر الاداري بذلك ، فوجدته قد خولني جميع صلاحيات امين العاصمة في ادارة اعمالي والمشاريع التي كلفت بالاشراف عليها . وعندما ابديت اعتراضي وعدم رغبتي بهذه الصلاحيات الواسعة ، رفض اعتراضي بشدة ، وقال : هشام هذه تبين ثقتي التامة بك . فلم يوافق على ارسال كتب او مطالعات ليطلع عليها او اخذ موافقات معينة ، وعندما كنت احاول طلب موعد للحضور الى مكتبه ، لايوافق ويسألني ان كُنت موجودا في مكتبي ، فانه سيمر بي للتحدث حول الاعمال . يحضر الى مكتبي فاعرض عليه جميع ما لدي من مطالعات او امور مهمة ، ارغب في عرضها عليه او الحصول على موافقات خاصة حولها ، فيحررموافقته بعد تفهمه لما اعرض عليه . والحقيقة اني لم اجد طيلة عملي في الدوائر الحكومية مسؤولا او موظفا يعتمد الثقة اساسا لعلاقته مع موظف آخر كهذا الرجل .
كان الشيخلي يتجول في مشاريع امانة العاصمة وزيارة اللجان العاملة على دراسة عروض المشاريع ، ويعطي وقتا لزياراته الميدانية اكبر من فترة وجوده في مكتبه . وبعد انتهاء الدوام كان وبحكم منصبه الحزبي ، يداوم ومسؤولاً عن مكتب بغداد – الكرخ للحزب الحاكم ، ويقضي ساعات المساء كاملة هناك . حتى اني كنت ازوره هناك للتحدث في الامور الضرورية في عملي ، فتعرفت على الكثير من اعضاء الحزب ممن تبوأ مناصب قيادية فيما بعد .
عملت مع سمير الشيخلي للفترة من سنة 1980 الى 1987 ، بفترات متقطعة واطلعت على طبيعته وعلاقته مع العاملين معه في امانة العاصمة او في المناصب التي استوزر فيها ، كان ذا شخصية متميزة ، بغدادي وحريص الى ابعد الحدود هادئ ، قليل الكلام ، يثق بمن هو اهل لذلك ، مستمع جيد لمحدثيه ، ويتفهم آراء الاخرين . وفي الوقت نفسه يمتلك مقومات الشخصية القيادية ولديه موقع جيد لدى صدام حسين ، الا ان له لسانًاً سليطاً ولاذعاً .. وبذيئاً عند الحاجة ، شرس الطباع ، بسبب حرصه على عمله و مواعيد الانجاز التي قطعها على نفسه .
لاادري ان كانت هذه الطباع هي من شروط نجاح امين العاصمة لبغداد في عمله ام لا ؟. وعلى كل حال كانت علاقتي معه علاقة مبنية على الاحترام والتقدير المتبادل ، فقد وثق بي في كل الاعمال ، واخلصت في عملي معه ومع الآخرين كما هو شأني دائما .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة