عمرو أبو العطا
كانت الأوراق وأغراض أخرى منتشرة على الأرض في فوضى عارمة وكأن قنبلة أُلقيتْ في الغرفة… وقفتُ وأنا أحك فروة رأسي ناظرا حولي مفكرا في الطريقة المثلى لتنظيف الغرفة بأقل جهد، بدأت أجمع الأوراق من على الأرض، فوقعت عيني على تذكرة سفر من بين الأوراق، شعرتُ بالبرودة وهي تتسلل إلى جميع أطرافي، وبخفقات قلبي تتزايد عندما قرأت التاريخ المدون على التذكرة، إنه تاريخ سفري ورحيلي إلى الغربة، جلستُ على طرف السرير وأنا أمسح العرق الذي تندى على جبيني، أغمضت عيني وسحبت الهواء إلى رئتي في نفس عميق، فصدري مزدحم بكثير من المشاعر ما بين اشتياق، وفقد، ووجع، وحزن، وحيرة وأسئلة لا تغادر رأسي.. وتذكرت: كانت الساعة تشير إلى الخامسة عصرا.. فقد حان الموعد للذهاب إلى المطار، كانت طوال اليوم تزعجني بعض الأفكار التي أتخيلها عن السفر والغربة ، أفكر في أمنياتي التي ما تحققت أبدا، وكثرة الازدحام في رأسي.. ولكن أعلم جيدا أن أحلامي من حقي ويوما ستتحقق ، انتهت الأيام الدافئة في أحضان العائلة والوطن ، لملمت أغراضي داخل حقيبة ، وأصبحت جاهزا للسفر ، ابتسم أبي ولكن ابتسامته كانت خافتة، وعيناه حزينتان، وظهر على أمي الانفعال والضيق، كانت الشمس قد قاربت على الرحيل ناثرة وراءها لون الشفق المحمر، وبعض السحب المعلقة بالسماء، والجو هادئٌ وجميلٌ، نسمة هواء خفيفة تنتقل عبر نافذة السيارة..
سلكت طريقي إلى ساحة الوداع واللقاء… أرض الدموع باختلافها ، إلى المطار ، المكان الذي يتشابه فيه الناس ، تلتقي فيه العيون ، تبرق فيه دمعة أمل بلقاء آخر.. وبين فراق الأحبة ، واحتضان دقات قلبي ، والصراع بداخلي بين الأمل واليأس ، الخوف والتحدي ، يدوي في المكان صدي صوت النداء الأخير للمسافر على متن الطائرة .
رفعتُ رأسي قليلًا وقد تذكرتُ شيئًا، نظرتُ إلى الدولاب الخشبي الموجود في أحد أركان الغرفة وأخرجت منه دفترا، دونتُ تاريخ اليوم والساعة، ثم أقفلته ووضعته بمكانه ، اشتريت ذلك الدفتر منذ زمن؛ لأدون به خواطري ومشاعري، سأكتب كل شيء به، سأجعله توثيقًا لفترة غربتي فبداخلي الكثير من المشاعر، ودونتُ ملحوظة صغيرة مفادها: أنا مؤمن أن الفصول الأربعة، ستظل دومًا أربعة، وبأن شمسًا واحدة، وبأن قمرا واحدًا، لكنني حين اغتربت عن وطني اكتشفت، أن كل الأمور تغيرت، فأضفت قمرا غريبا، وأضفت شمسًا ثانية، وأضفت فصلًا خامسًا، وهو فصل للغربة. ما أصعبه.
هنا لا شيء يتغير تقريبا ، الأيام الأخيرة تمضي كالوباء تنثر الجراح ، مضي خمسة وعشرون عاما ، عمرا آخر ، قطعتها خروجا عن الذات ، بلا دافع يربطني مع الوجود ، تبدل حالي من النقيض إلي النقيض ، غربة دفعت لأجلها ثمن غاليا من عمري ، أيام أخيرة تمتص ما تبقي من رحيق الحياة ، أعد حقيبة سفري كل ليلة ، وأتركها خلف الباب ، وحتي ذلك الوقت ، سأجمع ما تناثر من فتات حنيني حتي لا تنطفئ ذاكرتي ، سأحدق إلي السماء السوداء منتظرا سقوط نجمة تضئ قلبي المختنق ، ضائع بين كلمتين ، غربة ووطن ، عالق في الهواء كدخان سيجارتي ، كبقايا قهوة راكدة في فنجاني ، في الغربة سر لا يعرفه العابرون في فوضي اشتهائها ، سرٌ وحيد لكي نعرفه علينا أن نتعلم فنون الغربة المجنونة .
غريب أمر هذه الحياة ، وأملها القاسي ، فنحن نصدق كل أحلامنا وأوهامنا في الغربة ، ونثق بما هو مبهم وغير واضح ، برغم أن الحقيقة الوحيدة أننا نعاني فراق الأهل والوطن ، نعالج الفراغات التي أحدثناها في أرواحنا برقع صغيرة من الوهم ، الغربة ما هي إلا وهم يحمل وهم .
وفجأة عدت إلي طرقاتي التي كنت اسلكها في قريتي الصغيرة ، الشوارع والطرقات ، ذاتها ، بأشجارها العارية ، ودموع المطر ، عناويننا فقط ، هي التي تغيرت ، ملامحنا فقط ، هي التي تغيرت ، أمشي تارة ، وأقف تارة ، عقارب الساعة تشير الي الرابعة عصرا ، لم تشرق الشمس بعد ، فمنذ الصباح تحجبها الغيوم ، بعد دقائق قليلة ظهر قرص الشمس ، في قرص الشمس كنت أري حبيبتي من ملكات العهد القديم ، هي تري نفسها قريبة الشبه من الملكة إيزيس ، لم تنطق باسمي علي شفتيها منذ زمن ، سمعتها تنادي عليا مرات في نهاية الطريق ، وصلت الي داري وقد تصدعت الجدران وتهالكت الأساسات وتبدلت الأركان ، أستندت علي الحائط ، وجلت بنظري الي كل أنحاء الدار ، أستعيد ذكرياتي ، ليالي طويلة مصحوبة بدموع الفرح ودموع الفراق ، مع نسمات الفجر ، أتقلب في فراشي جهة اليمين وجهة الشمال ، كان هذا أضغاث أحلام.