(منذ نشأتِها حتى العام 1992م)
القسم الخامس
د. عبد الرضا علي
1 ـ التنظيرُ النقديَّ:
وهو محاولةُ إيجادِ مسوِّغٍ نظريٍّ للأفكارِ النقديَّةِ، وجعلِ تلك المُسوِّغاتِ أحكاماً منهجيَّةً يلتزمُ بها صانعو الإبداعِ من جانبٍ، ويتَّخذها النقدُ معياراً لهُ من جانبٍ ثان.
ومثلُ هذه الأفكارِ لن يتأتَّى لها الذيوعُ، والانتشارُ قبولاً، أو رفضاً إنْ لم تكن وراءها خبرة إنشائيَّة في مجالِ الإبداعِ، وممارسةٌ ميدانيَّة في حُقولِ النقدِ التطبيقيِّ، ودرايةٌ واسعةٌ بالمعاييرِ، والأحكامِ : قديماً وحديثاً.
وقد وجدنا دراستينِ فقط تتَّصفانِ بكونهما تنظيريَّـتينِ في نقدِ الشعرِ ممَّا نُشرَ في الصحفِ والمجلات في مرحلةِ النشأة، وهما : دراسةُ شاذل طاقة الموسومة بـ((في جنَّةِ عبقر))، ودراسة محمود المحروق الموسومة بـ(( في سماءِ الشعر)).
في أفكارِ شاذل طاقة منطلقاتٌ نقديَّةٌ ترقى إلى الأصالةِ في التنظيرِ في بدايةِ الخمسينيّات، لكونهِ يطرحُ أمامَ المتلقّي مجموعةً من الآراءِ التي تجدُ صداها عند المتلقّي بيسرٍ وهو يستقبلُ عرضَها الجميلَ من لدنِ شاعرٍ موهوبٍ يحملُ سمات الناقدِ العارفِ . ومن هذه الآراء، أنَّ الشاعرَ عنده هو الرائدُ الذي يكشفُ للنفسِ الإنسانيَّةِ آفاقاً روحيَّةً فسيحة تحومُ فيها تلك النفسُ، وتنسى واقعَها، وأشجانَها… لذلك لا ينكرُ عليها حاجتَها إلى غذائها الروحيِّ، فيشيرُ إلى أنَّ هذا الغذاءَ لن يكونَ بغيرِ الفنِّ أبداً؛ مع أنَّه يؤكِّدُ أنَّ الشعراءَ هم روّادُ هذا العالمِ الروحيِّ، وأنَّ لكلِّ واحدٍ منهم عالماً خاصَّاً به تعارفَ النقَّادُ أنْ يشبِّهوه بنبعٍ كبيرٍ هو نبعُ الحياة (¹).
ويقفُ شاذل طاقة منبِّهاً إلى أهميَّةِ التجربةِ في حياةِ الشاعر، لأنَّها تنقُلُهُ إلى عالمٍ روحيٍّ سام فسيحِ الجنباتِ؛ ويمثِّلُ للتجربة الناجحةِ بقصيدة طاغور (( في السوق)) التي تسجِّلُ خواطرَ بستانيٍّ وهو يعودُ إلى زوجهِ في المساء. ويرى أنَّ سببَ نجاحِ هذهِ القصيدةِ وغيرِها، كونُها تعبِّرُ عن تجربةٍ شعوريَّةٍ موحَّدةٍ، لأنَّ العربيَّ وغيرَهُ يشتركانِ مع الشاعرِ في هذه التجربةِ .
وعلى وفقِ هذه الأفكارِ يُعلنُ أنَّ الطبيعةَ والحياةَ شيءٌ واحدٌ، وإذا كان الفنُّ تصويراً للطبيعةِ فهو تصويرٌ للحياةِ بعبارةٍ أعمّ. لذلك يرفضُ الفكرةَ القائلةَ إنَّ الفنَّ إنَّما هو تقليدٌ للطبيعةِ، لأنَّ التقليدَ يوحي بالفناءِ أكثرَ ممَّا يوحي بالحياة، ويردُّ على القائلينَ إنَّ الفنَّ إنَّما هو تقليدٌ للطبيعةِ قائلاً : (( ولو قالوا إنَّ الفنَّ تصويرٌ للطبيعةِ، أو بالأحرى خلقٌ للطبيعةِ في نفسٍ مبدعةٍ شاعرةٍ، لكانوا قد أدركوا الحقَّ، وبلغوا الصواب))(²).
ثمَّ يعالجُ قضيَّةَ الصراعِ بين القديمِ والجديدِ، فيرى أنَّ الموسيقى في أيِّ عصرٍ من العصورِ تكونُ مُتَّسقةً مع طبيعةِ الحياةِ في ذلك العصر، لذا فإنَّ موسيقى الشعرِ العربيِّ المعاصرِ يجبُ أن تكونَ متَّسقةً مع الذوقِ العربيِّ المعاصرِ، ومنبثقةً من صميمِ حياتِنا الراهنةِ…ويُعلنُ أنه لا يدعو في هذا إلى هدمِ العروضِ العربيِّ القديمِ، لكنَّه يُشيرُ إلى إمكانيَّةِ الإفادةِ من هذه الأعاريضِ القديمةِ وتحويرِها إلى ما ينسجمُ مع هذه الحياةِ المعاصرةِ، ويُذكِّرُ بما فعلَهُ الأندلسيّونَ حين انسجموا مع الحياةِ الأندلسيَّة الجديدةِ الجميلةِ ، مذكِّراً في الوقتِ نفسهِ أنَّ المهجريينَ أفلحوا في هذا المضمارِ أيضاً حينَ ساروا على نهجِ الأندلسيين، مسوِّغاً نجاحَ المهجريينَ بالقولِ :(( لأنَّ تجديدَ الأندلُسيين كان منحصراً في قوافيَ الشعرِ على الأكثرِ، وفي أوزانهِ على الأقل، ولكنَّهم لم يُحاولوا التجديدَ في جوهرِ الشعرِ : في معانيهِ، وأخيلتِهِ، وأساليبهِ، بينما فطنَ المهجريّون إلى كلِّ هذا، فهجروا المسالكَ العروضيَّةَ القديمةَ، وحوَّروها،وبدَّلوا فيها، وجدَّدوا في أساليبِ الشعرِ وأخيلتِهِ ومعانيه))(³).
ثمَّ يدعو إلى التلاقحِ الثقافيِّ، فيقرّرُ وجوبَ اتِّصالِ الأديبِ العربيِّ المعاصرِ بالآدابِ الأجنبيّةِ الأخرى، مدلِّلاً على أنَّ العربَ قديماً عرفوا ذلك، وأفادوا منه، وفي شعرِ أبي العلاء والمتنبِّي ما يفصحُ عن أثرِ تلك الثقافاتِ قديماً ((وتستطيعُ أنْ تجدَ الفروقَ واضحةً بين كلٍّ من شوقي والرصافيِّ مثلاً من حيثُ تأثيرِ الثقافةِ الأجنبيّةِ في كلٍّ منهما.))
ويجدُ أنَّ تجديدَ شعرائنا الشبابِ كان من نتائجِ تأثُّرِهم بآثارِ الغربيينَ من جهة، وآثارِ المهجريينَ من جهةٍ ثانيةٍ.. وهو بهذا إنَّما يُشيرُ إلى حركةِ الشعرِ الحرِّ، لكنَّ المصطلحَ آنذاك لم يكن قد استقرَّ بعدُ، لذلك يُسميِّه بـ((المنطلق)) واصفاً إياه بأنَّه لم يكن ضرباً مبتكراً ولا مبتدعاً، لكنَّه تجديدٌ مبنيٌّ على الأصولِ العربيَّةِ القديمةِ في العروضِ، فيه يتحرَّرُ الشاعرُ من قيودِ القافيَةِ الموحَّدةِ، ولا يكتفي بذلك، بل يتحرَّرُ من قيودِ الوزنِ بعددِ التفعيلاتِ العروضيَّةِ الموجودة في كلِّ بيت.
إنَّ تلك الآراءَ في الشعرِ ((المنطلق)) هي عينُها التي بشَّرت بها نازكُ الملائكة آنذاك، وهذا ما يؤكِّدُ ريادةَ شاذل إلى جانبِ الروَّادِ الآخرينَ: تنظيراً وتطبيقاً.
وشاذلُ لا يكتفي بالتنظيرِ لمنطلقاتهِ النقديَّةِ، إنَّما يشفعُها بالتطبيقِ، فيقفُ محلَّلاً قصيدةَ السيَّابِ (( في السوقِ القديمِ)) تحليلاً نقديَّاً رصيناً يصلُ فيهِ إلى أنَّ هذا الضربَ من الشعرِ يستطيعُ أنْ يُحلِّقَ بالقارئ إلى عالمٍ روحيٍّ سام، ويشركُهُ في تجربتِهِ الشعوريَّةِ الحالمةِ، ثمَّ يذكرُ أنَّ هذا الضربَ من الشعرِ مزجٌ بين الوعي، واللاوعي في التعبيرِ عن التجربةِ الشعوريَّةِ ، وهذه الإشارةُ ((بين الوعي واللاوعي)) لم تردْ عندَ أيِّ ناقدٍ، أو أيَّةِ دراسةٍ سبقت دراسته، ممَّا يؤكِّدُ على رصانةِ آرائهِ، وأصالتِها.
وحينَ يدعو إلى الاهتمامِ بالصورةِ الشعريَّةِ فإنَّ دعوتَهُ تلك تُعدُّ بكراً أيضاً في المعيارِ النقديِّ، كما أنَّهُ حين يُقرِّرُ أنَّ عهدَ القافيةِ الواحدةِ قد مضى، أو أنَّه أوشكَ أنْ يمضي، وأنَّ هذا النسقَ المعبِّرَ ملائمٌ لطبيعةِ الحياةِ المعاصرةِ يُشاركُ نازكَ الملائكةَ في منطلقها النقديِّ المتمثِّلِ في الخروجِ على وحدةِ القافيةِ ـ الإلهة المغرورة ـ في شظايا ورماد، وهو منطلقها النقديُّ الذي تراجعتْ عنه بعد حينٍ من الزمنِ⁽**⁾ .
إنَّ منطلقاتِ شاذل النقديَّةَ ناقشتْ قضايا شتَّى في عمليِّةِ الخلقِ الشعريِّ، والموقفِ من ذلك الخلقِ، فعالجتْ : الشعرَ والنثرَ، والشعرَ والمجتمعَ، والشعرَ والسياسةَ، ثمَّ موقفَ الفنِّ من المجتمعِ، وقضيَّةَ الخلافِ بين من يقولُ بـ ((الفنّ للفنِّ)) والذي يقولُ بـ(( الفنّ للمجتمعِ)) منتهياً إلى القولِ : (( إنَّ الفنَّ الرائعَ هو التصويرُ الصادقُ للحياةِ، والتعبيرُ عن آثارِ أحداثِها وشاهدِها في النفسِ الإنسانيَّةِ بطريقةٍ فنيَّةٍ تضمنُ المشاركةَ الوجدانيَّةَ بين الكاتبِ، أو الشاعرِ، وبين السامعِ أو القارئ… وإذا كانَ الأمرُ كذلك فإنَّ الفنَّ الرائعَ هو الحياةُ، ولا نستطيعُ أنْ نقولَ حينذاك إنَّ هذا الفنَّ لا يُثيرُ المتعةَ الفنيَّةَ الخالصةَ، ولا يعملُ على ترقيةِ الذوقِ، وتقويمِ الطباعِ المعوجَّةِ ، وإنَّ صاحبَ هذا الفنِّ نبيٌّ بين قومهِ، وهو لا يؤدِّي لهم خدمةً اجتماعيَّةً محسوسةً مباشرةً، ولكنَّهُ يُربِّي أذواقهم، ويُثيرُ مُتعتَهم الفنيَّةَ الخالصةَ، ويُبصِّرُهم بالحياةِ، ويكفي الفنَّانَ هذا لأنْ يكونَ نبيَّاً ذا رسالةٍ روحيَّةٍ بين الناس)) .
وهو بهذا يقفُ مع دعاةِ الفنِّ للفنِّ في تلك المرحلةِ، معلناً صراحةً أنَّ كثيراً من الشعرِ السياسيِّ قد ماتَ، وأنَّ أصحابَهُ الشعراءَ قد طمرهم النسيانُ، وسوف لا يعرفُ الناسُ عن هؤلاءِ الشعراءِ إلا أنَّهم شعراءُ عاديّونَ لم يكونوا أُمراءَ شعرٍ، ولا سلاطينَهُ)). ولعلَّهُ (بهذا) كانَ أجرأَ ناقدٍ في بدايةِ الخمسينيَّاتِ يُعلنُ مثلَ تلك المنطلقاتِ.
ويبدو أنَّ معظمَ آرائهِ الخاصَّة جدَّاً قد أخذتْ طريقَها إلى الشيوعِ، حتَّى وجدنا من يقولُ : إنَّ حداثةَ الروَّادِ أضحتْ قديمةً.
إنَّ شاذلاً لم ينسَ شواعرَ العراقِ المجيدات وهو يُقرِّرُ معياريَّةَ القصيدةَ الجديدةَ، لذلك استشهدَ بقصيدةِ نازكِ الملائكة (( ثورة على الشمسِ))، وقصيدة لميعة عبّاس عمارة (( شهرزاد)) واجداً فيهما نتاجاً رائعاً يستحقُّ الذكرَ والاستشهاد.
على أنَّ إيمانَ شاذل بالحداثةِ جعلَهُ يُشيدُ بقصيدةِ نثرٍ كتبَها (( سراب)) وهو اسمٌ ربَّما يكونُ مستعاراً ( غير صريح) ، فأثبتها، وأشارَ إلى أنّه يميلُ إلى وصفِها بالشعرِ على رأيِ الغربيينَ الذين يطلقونَ لفظ ((القصيدة أو الشعر)) على كلِّ قطعةٍ فنيَّةٍ فيها خلقٌ للحياةِ ، وتصويرٌ للمشاعرِ والأحاسيسِ، وهو بهذا يكونُ قد سبقَ بعضَ نقَّادِنا الذين بدؤوا يروِّجونَ لقصيدةِ النثرِ التي بشَّرت بها قبلهم الناقدة ((سوزان ببيرنار))ودرست تطوَّرها الفنيَّ