علي أبو عراق.. محاولة في تدوين المرويات

صانع الحكايات هو العنوان التوصيفي الذي يمكن اقتراحه لكتابات علي أبو عراق الجديدة، إذ يأخذنا عبر تقانة الحكي الى سحر عوالمها، ومتون سردياتها، وكأنه يكتب نصوص ذاكرتها، حيث يشتبك الخيال بالواقع، ويشتبك اليومي بالسحري، وحيث تتحول حيوات الجنوبيين الى فضاء زاخر بالمدهش والغرائبي، مثلما تتحوّل الشخصيات الى رواةٍ مسكونين بتلك الحكايات، أو هم أبطالها الذين يمنحون النص الشفاهي عمقا انسانيا وشغفا وجوديا، له طاقة الحلول، وله امكانات اللغة اللامحدودة..
قد تكون ميثولوجيا الطنطل واحدة من تلك الحكايات، إذ تنطوي شفراتها المُتخيَّلة على ايهامات نفسية، ورمزية لحيوات عالم الأهوار، وكأنها كناية عن ماهو رمزي لذاكرة الخوف عند الجنوبيين، ولطبيعة حياتهم المكشوفة على الغامض، وعلى طقوس يحتشد فيها كثير من الغرائبية. طنطل عذير كما يقترح ثيمته أبو عراق يتحول الى رؤية لاستبصار ذلك الخوف التاريخي بحمولاته الطقوسية والدينية وحتى السلطوية عند أولئك الجنوبيين، والى حكايات أخرى لها ألفتها وصخبها، ولها غرابتها وغموضها، ولها وجودها العالق بروح المكان المائي، حيث يتحول الطنطل الى قوة خارقة وغامضة، تتسلل من المجهول، لتشاطر الناس أسرارهم وخوفهم، وبحثهم الدائب عن المُخلّص، فضلا عن حكايات شفاهية متعددة تتعالق مع المسكوت عنه والمقموع والهامشي، والتي تتبدى تمثلاتها من خلال ما تنطوي عليه من مرويات، لها رواتها السريون، والتي تحكي عبر شفاهيتها سيرا وأسفارا، ولحظات عشق، أو ظلم، عبر استيهامات الغناء الجنوبي بالحزن، وعبر الأحاجي، والمثيولوجيات، وأسفار البطولة، وبكلِّ ماتضجّ به عوالم الهور ذي الأثر الاسطوري في اللاوعي الشعبي..
كتاب أبو عراق( شفاهيات- مرويات عراقية جرت على الشفاه) يعدّ اضافة الى تلك المرويات، فهو يضعنا أمام فضاء مغاير للسرديات العراقية، إذ يتقصّى عوالم مجهولة، لا ينحني فيها الكاتب على مظاهر معروفة ل(الأدب الشعبي) فقط بل يعمد الى كشف ماهو شفاهي وغير مُدوّن في هذا الأدب، وضمن ماهو عميق في لاوعي البيئة المائية في الأهوار ومجتمعاتها، والتي ظلت بعيدة عن معالجات الباحثين والمعنيين بالأثر الشعبي العراقي في بيئاته المتنوعة..
حكايات الكتاب بوصفيتها وبتقانتها الشعرية يمكن أنّ يكون مشغلا تعريفيا لهذا (الأدب المنسي) والذي يُعطي لجهد الشاعر والباحث علي أبو عراقي أهميته الفاعلة، على المستوى الثقافي والأنثربولوجي، وعلى مستوى خصوصيته في سردنة تلك الحكايات، بوصفها مرويات غير معروفة للذاكرة الجنوبية، أو حتى بوصفها أفقا شعريا له هويته الدالة على ماهو تعبير عن حمولات جمالية وتعبيرية..
كما يضعنا هذا الكتاب أمام سياق ثقافي توصيفي لها العوالم من جانب، وضمن سياق تاريخي وتوثيقي يفترض الإبانة عن أهمية مقاربته البحثية والنقدية من جانب آخر، إذ يمكن تصنيف هذه المرويات بوصفها بُنى إطارية حافظة لجزءٍ مهم من تلك الاسفار والمرويات الشعبية، والتي تلامس عوالم جماعات تعيش في بيئة معزولة، ولها مظاهر خاصة للمعيش والطقوس، وتصطنع لوجودها تعالقات انسانية معينة، وقيم تعبيرية لها رمزيتها وأثرها في حياتها، عبر تمثلاتها في عادات أبنائها، وعبر طقوسهم وتواصلهم ورمزيات بطولاتهم ومقاوماتهم لمظاهر الخوف والقهر والموت..
مرويات المهمشين قد يكون عنوانا داخليا للكتاب، إذ نجد أحداثها تستغرق عوالم النساء والفلاحين و(العبيد) من خلال سياق سردي يقوم على ثنائية صياغة المروية الجندرية، إزاء مركزيات السلطة التي يمثل رمزيتها الإقطاعي والفقيه، والتي يسميها ياسين النصير ب(السرديات الصيانية)
إنّ إيجاد سرديات خاصة لهذه المرويات المنسية تكشف عن عتبة قرائية لعالم لم تتبد مظاهره كثيرا، ولم يشتغل على ملفاته الجهد البحثي العراقي. وحين يتصدى علي أبو عراق المتكئ على ذاكرة شعرية زاخرة عن هذه المساحات المجهولة، فإنه لم يشتغل بأدوات المؤرخ، بل بشغف الحكواتي الذي وجد في هذه الشفاهيات عالما خاصا وأثيرا، له شفراته واسراره وطلاسمه، وله أيضا حمولاته الرمزية التي يكتنزها الغناء والشعر الشعبي والمهاويل والحكايات، والتي تستدعي جهدا مؤسسيا وأكاديميا كبيرا للتعريف بها، والتعرّف على بناها الأنثروبولوجيا من خلال دراسة بنيات وأنماط المعيش، والعلاقات الرمزية في اللغة والعادات والأزياء والزواج، وكذلك في مجال صراعهم الوجودي مع الغامض والمجهول، ومع عوالم طبيعة البيئة المائية التي يعيشون تحدياتها..
المزاوجة مابين الشعري والحكواتي يمنح كتابة علي أبو عراق مجالا لتدوين هذه المرويات، ليس بوصفها جزءا من الذاكرة الحافظة فقط، بل هي جزء من السيرة وأسفارها، ومن طبيعة أنساقها الثقافية، وما تتطلبه من توصيف، وعلاقات تُخفي كثيرا من أسرار الصراع والعنف والإخضاع والهيمنة، ومن طبيعة السرديات التي تصنعها(السلطة) الاقتصادية والاجتماعية والدينية لتكريس فوبيا الإخضاع عبر شيوع الخوف، وتقديس الطاعة، وأحسب أنّ ما تضمنه الكتاب من سرديات مضادة لما هو شائع يعكس حاجة ثقافية لمعرفة البنيات المؤسسة لكثير من شفرات الخوف عند الجنوبيين، وهي ضرورة تستدعي حضورا مهما للدراسات الثقافية الخاصة بمعالجة عوالم الجماعات المتخيّلة في المكان العراقي…
علي حسن الفواز

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة