جوزيف ستيغليتز
أستاذ في جامعة كولومبيا والحائز على جائزة نوبل التذكارية في العلوم الاقتصادية في عام 2001
قَلَب إعصار هارفي حياة العديد من البشر رأسا على عقب وخَلَّف في أعقابه أضرارا هائلة في الممتلكات قُدِّرَت بنحو 150 إلى 180 مليار دولار. ولكن العاصفة التي ضربت ساحل تكساس على مدار أسبوع كامل تقريبا تثير أيضا تساؤلات عميقة حول النظام الاقتصادي في الولايات المتحدة والسياسة الأميركية.
من عجيب المفارقات أن يقع مثل هذا الحدث الوثيق الصِلة بتغير المناخ في ولاية هي موطن عدد كبير من منكري تغير المناخ ــ وحيث يعتمد الاقتصاد بشِدة على الوقود الأحفوري الذي يسبب الانحباس الحراري الكوكبي. بطبيعة الحال، من غير الممكن أن نربط بنحو مباشر بين حدث مناخي بعينه والزيادة في الغازات المسببة للانحباس الحراري في الغلاف الجوي المحيط بكوكب الأرض. ولكن العلماء توقعوا منذ فترة طويلة أن تؤدي هذه الزيادة ليس فقط إلى رفع متوسط درجات الحرارة، بل وأيضا إلى تقلب الطقس ــ وخاصة وقوع أحداث بالغة القسوة مثل إعصار هارفي. وكما استنتج فريق الخبراء الحكومي المعني بتغير المناخ قبل عدة سنوات، «هناك أدلة تشير إلى أن بعض الظواهر المتطرفة تغيرت نتيجة لتأثيرات ناجمة عن أنشطة بشرية، بما في ذلك الزيادات في تركيزات الغازات المسببة للانحباس الحراري الكوكبي في الغلاف الجوي». وقد شرح لنا بإيجاز عالِم الفيزياء الفلكية آدم فرانك أن «زيادة الدفء تعني المزيد من الرطوبة في الهواء، وبالتالي هطول الأمطار بكميات أكبر».
من المؤكد أن هيوستن وتكساس لم يكن بوسع أي منهما أن تفعل بمفردها الكثير بشأن الزيادة في الغازات المسببة للانحباس الحراري العالمي، وإن كان من الممكن أن تضطلعا بدور أكثر نشاطا في الضغط لصالح سياسات مناخية قوية. ولكن السلطات المحلية وعلى مستوى الولايات كان بوسعها أن تقوم بعمل أفضل كثيرا في الاستعداد لمثل هذه الأحداث، التي ضربت المنطقة بقدر من التواتر المنتظم.
في الاستجابة للإعصار ــ وفي تمويل بعض الإصلاحات ــ يلجأ الجميع إلى الحكومة، تماما كما حدث في أعقاب الأزمة الاقتصادية التي اندلعت عام 2008. ومرة أخرى، من عجيب المفارقات أن يحدث هذا الآن في جزء من البلاد حيث يلقى العمل الحكومي والجماعي اللوم والتوبيخ على نحو متكرر. ولم تكن المفارقة أقل عجبا عندما لجأ جبابرة القطاع المصرفي الأميركي إلى الحكومة في وقت الشِدة، بعد أن بشروا بالإنجيل النيوليبرالي الذي يدعو إلى تقليص حجم الحكومة وإلغاء القواعد التنظيمية التي حظرت بعض أنشطتهم الأشد خطورة والمعادية للمجتمع.
هناك درس واضح يمكن استخلاصه من مثل هذه الأحداث: فالأسواق وحدها غير قادرة على توفير الحماية التي تحتاج إليها المجتمعات. وعندما تفشل الأسواق، كما يحدث غالبا، يُصبِح العمل الجماعي واجبا حتميا.
وكما هي الحال مع الأزمات المالية، هناك احتياج إلى العمل الجماعي الوقائي للتخفيف من تأثير تغير المناخ. وهذا يعني ضمان إقامة البنايات والبُنى الأساسية على النحو الذي يجعلها قادرة على تحمل الأحداث المتطرفة، وبحيث لا تقع في المناطق الأكثر عُرضة للأضرار الشديدة. وهو يعني أيضا حماية النظم البيئية، وخاصة الأراضي الرطبة التي يمكنها أن تلعب دورا مهما في امتصاص واستيعاب التأثير المتخلف عن العواصف. كما يعني إزالة الخطر المتمثل في احتمال أن تؤدي كارثة طبيعية إلى تسرب مواد كيميائية خطرة، كما حدث في هيوستن. ويعني أيضا الاستعداد بخطط استجابة فعّالة، بما في ذلك الإخلاء.
وهناك احتياج إلى الاستثمارات الحكومية الفعّالة والقواعد التنظيمية القوية لضمان كل من هذه النتائج، بغض النظر عن الثقافة السياسية السائدة في تكساس وأماكن أخرى. ففي غياب القواعد التنظيمية المناسبة، يغيب الحافز لدى الأفراد والشركات لاتخاذ الاحتياطات الكافية، لأنهم يعلمون أن الكثير من تكاليف الأحداث المتطرفة سوف يتحملها آخرون. وفي غياب التخطيط والتنظيم العام المناسبين، بما في ذلك للبيئة، سوف تكون الفيضانات أشد سوءا. ومن دون التخطيط للكوارث والتمويل الكافي، قد تنزلق أي مدينة إلى معضلة كتلك التي وقعت فيها هيوستن: فإذا لم تأمر بالإخلاء سيموت كثيرون؛ ولكنها إذا أمرت بالإخلاء، فسوف يموت الناس في الفوضى اللاحقة، وسوف تمنع حركة المرور المكتظة المتشابكة الناس من الخروج.
تدفع أميركا والعالم ثمنا باهظا للتفاني في الإيديولوجية المتطرفة المناهضة للحكومة والتي يتبناها الرئيس دونالد ترمب وحزبه الجمهوري. ويدفع العالَم الثمن لأن الانبعاثات الغازية المتراكمة المسببة للانحباس الحراري الكوكبي التي تطلقها الولايات المتحدة أكبر من تلك التي تطلقها أي دولة أخرى؛ وحتى يومنا هذا، تظل الولايات المتحدة واحدة من قادة العالَم عندما نتحدث عن نصيب الفرد في الانبعاثات الغازية المسببة للانحباس الحراري الكوكبي. ولكن أميركا أيضا تدفع ثمنا باهظا: ويبدو أن دولا أخرى، وحتى الدول النامية الفقيرة مثل هاييتي والإكوادور، تعلمت (بتكلفة باهظة غالبا، وبعد بعض الكوارث الكبرى) إدارة الكوارث الطبيعية بنحو أفضل.
في عام 2005 دمر إعصار كاترينا نيو أورليانز، وفي عام 2012 تسبب إعصار ساندي في إغلاق قسم كبير من مدينة نيويورك. والآن، بعد أن دَمَّر إعصار هارفي ولاية تكساس، تستطيع الولايات المتحدة ــ بل ينبغي لها ــ أن تقوم بعمل أفضل. فهي تمتلك الموارد والمهارات اللازمة لتحليل هذه الأحداث المعقدة وعواقبها، وصياغة وتنفيذ برامج التنظيم والاستثمار الكفيلة بتخفيف التأثيرات السلبية على الأرواح والممتلكات.
بيد أن أميركا لا تملك نظرة متماسكة للحكومة من قِبَل أولئك على اليمين، الذين يعملون لصالح أصحاب المصالح الخاصة المستفيدين سياساتهم المتطرفة، فيواصلون إطلاق تصريحات متضاربة. وقبل أي أزمة، يقاومون القواعد التنظيمية ويعارضون أي استثمار أو تخطيط من قِبَل الحكومة؛ ثم يطالبون بعد ذلك بمليارات الدولارات ــ ويحصلون عليها ــ لتعويضهم عن خسائرهم، حتى تلك الخسائر التي كان من الممكن منعها بسهولة.
لا يملك المرء إلا أن يتمنى أن لا تحتاج أميركا، وغيرها من الدول، إلى المزيد من الكوارث الطبيعية الكفيلة بإقناعها، قبل أن تبدأ في التعامل بجدية مع الدروس من إعصار هارفي.
دروس من هارفي
التعليقات مغلقة