تنوعات التأويل وجماليات المكشوف
القسم الأخير
ناجح المعموري
لم يكن طارق شخصاً غبياً بل هو أكثر الشخوص التي انطوت عليها الرواية ذكاءً، هذا ما أراده له عبده خال ولذا كان مركز الحكي وبؤرة التقاء كل الشخوص وخصوصاً الذكرية. هي ابتدأت به وتوافد حضورها من خلاله وتنمو مستعينة به أيضاً. وبقدر الذي تمتع به، عرف المجازفة والمغامرة، فهو الذي لم يترك حراماً وراءه ولا التزم بقانون أسري/ أو اجتماعي وفحولته المبكرة سبب كل ذلك وهو الذي قال عن نفسه «ورثت الفحولة من أسلافي» /ص90.
وكانت فحولته تزحف وراء كل الجسد ( في الليالي الباردة «نتحاشر» أنا وأبناء خالتي في فراشين متقاربين ويمضي الليل ، ونحن نتجاذب الأغطية لندفئ أجسادنا من لفحات الجو القارص ، وفي ليلة محددة اكتشفت النار التي تتولد من الاحتكاك في تلك الليلة، التصقت بمعتز –ابن خالتي- الذي يصغرني بالعمر…… كانت أول عملية جنسية أقوم بها، وأول ذكرى سيئة عن هذه الطبيعة الفائرة في جسدي)/ص91. واستمر طويلاً –يختم على ظهور الذين معه في الحي لذا كان لقبه (ماطور النفخ) انسلت هذه النبرة إليه بسبب أفعاله القذرة مع أبناء الحي. وأدرك طارق بأنه سقط تماماً وتكرس هذا الانهيار بعد دخوله لقصر السيد مباشرة وكان حماسه عالياً للسقوط ومارس إمتاع السيد وزاول تعذيب من أراد تأديبهم السيد. السقوط حالة معروفة ومكشوفة للآخرين ، يعلن عن لحظته (السقوط حالة زمنية توصلك الى القاع في سرعة متناهية وبفعل التجاذب تكون مهيئاً لأن تسافر في لحظات السقوط المتعددة وكل مرحلة تدنو بك من القاع تسجل حالة دنيا من حالات السقوط، فالسقوط لا يحدث دفعة واحدة) /ص93. طارق شخصية إشكالية، وجد في تصرفاته تميزاً له وصار علاقة على السقوط والانحدار نحو الهاوية وفي اليوم الذي لا يجد فيه من يختم على ظهره يذهب الى نعاج عمته ويسفدها جميعاً.
غرقت حياته كل ذاك الطيش والسقوط، لكنه يرى في عتمة الليل ثورة مشعة، هي مستقبله وتاريخ وجوده الحقيقي .. إنها تهاني الذي صاغت المشرق في حياته والعالم وهي الوحيدة التي يعيش من أجلها. وحياته عتمة من غيرها. يستحضرها ليلاً ويكتشف شهوة مثيرة في وجهها وإثارة قوية للإغواء. ولم يستطع طارق الصمود الآن النظرات غير كافية، يريد تماساً معها واحتكاكاً وهذا ما حصل بينهما وهرب لحظتها من النافذة العليا وأخذها الى قريته ودفنها هناك، وظلت صورة فقط يتذكرها أحياناً وكلما رآى أسامة ابن خالتها الذي أرادها.
السقوط ظاهرة اجتماعية / وثقافية ولابد من عناصر مكونة له ومحفزة عليه حتى يتحول الى ظاهرة عامة أو واسعة [ تسابق كل شيء نحو السقوط: مراسي الصيادين، وملاعبنا، وأماكن سباحتنا، كل المواقع كانت تهبط بسرعة فائقة الى بئر الذكريات/ ص56
هذا السقوط الذي يكاد أن يكون عاماً استندته تحولات اقتصادية مفاجئة، قادت الكثير نحو الثراء وممارسة مهن ذات مردود مادي سريع وتم تحقيق أرباح طائلة وهذا الوضع الاقتصادي هو الذي لعب دوراً في تكون قصر السيد وتحوله الى أسطورة في حياة المدينة. أموال كثيرة جداً وقصر يومئ للشباب لدخول الجنة.. [ كانت البلد تغرق في طوفان من الأموال المضخوخة فدفعت الناس، والشركات لأن تبحث عن أي شيء تمتص به ذلك المال المتدفق، وفي أحياناً لم يكن المص كافياً لتجفيف كل تلك الثروات، فتبعت وسائل أكثر جدوى لاغتراف تلك الكنوز، فمن كان يملك عيناً صحيحة خرج لجمع كل ما يقع أمامه، ليس بطريقة المص بل البلع، والخمش ، والدفن/ ص58
هذا هو التحول الاقتصادي الحاصل قصدياً ولم يكن اعتباطياً. المؤسسات الكبرى هو المتحالفة مع بعضها من أجل إنجاح مؤسسة القصر، ذات المهام السرية المهمة والتي ستكون لها معطيات مهمة تعزز السلطة الكبرى وتكرس خطاباتها السياسية والثقافية. وأنا لا أستطيع قراءة هذه الرواية [ ترمي بشرر..] بعيداً عن برامج ومشاريع خاصة، ستكون لها نتائج ايجابية بالنسبة للسلطة، وهذه النتائج ذات انعكاسات بطيئة وربما تبتدئ بعد عقود، هذا في مجال واحد وهو بحاجة الى ما يساعده على التمركز ومن هذه العوامل المساعدة، هو المجال الاقتصادي، ولذا حصل ضخ مبالغ خيالية، كان لها أثر واضح في حصول متغيرات سريعة في حياة الناس، وكان الأنموذج لذلك هو « عبد الغني المزروعي « الذي اضطر لترك وظيفته في التعليم والتفكير بإيراد مفتوح وغير محدود، وأفتتح مكتباً لبيع وشراء العقارات، وهذا الفضاء الاقتصادي هو أسرع الفضاءات الموجودة نحو الثراء الكبير [ ومن هنا تسلل الى المقاولات، والتموين، ليدل البقية الناصحة على اقتضاء أثره، ومن كان أعمى كآبائنا نحبط بين الجدران، ولم يبرح مكانه، فقد فرحوا بزيادة دخولهم، وصرفوها في ملذات بسيطة وغبية في آن، كالسفر للخارج، أو اقتناء ما لم تكن دخولهم قادرة على اقتنائه قبل جريان المال من أيديهم على اثر ارتفاع دخولهم الوظيفية/ ص59. هذا التغير الحاصل في قلب المجتمع واعني به طبقة الموظفين بدخولهم الجيدة، مثل المعلم عبد الغني، يفضي نحو تحولات بنيوية في المجتمع ولكن ليس كله، يحوز النتائج من توفر على قدرة من المجازفة، إنها طفرة أسطورية، وكل هذا من أجل قصر السيد والقصور الأخرى الزاحفة على البحر. [ ساحل ممتد ألف أهل الحي الخروج لمياهه مع العصاري لغسل أبدانهم وأغنامهم وأدوات ظهورهم من أمواج البحر الضاربة لأساسات منازل الصيادين منهم. وقبل أن يفيقوا تماماً كانت مئات الآلاف من الأطنان الترابية تردم الأمواج، وتحولها الى قطع ومخططات سكنية لهم لم تفلح تلك الحجج في استعادة أراضي أجدادهم، ولم تفلح شكواهم في تحصين قواربهم المرمية في عرض البحر من شق أمواج البحر مرة ثانية، ولم تمنع لآلات البناء الثقيلة من الاقتراب من تلك المياه وردمها/ ص55
توصيف ذكي للزحف العمراني الجديد، الذي جاء مع الفورة المالية التي ذهبت للقطط للسمان، وحصلت طفرة غير طبيعية بسبب ضخ المبالغ الطائلة، حتى وليد الخنبش آني العمياء واليتيم مبكراً هو الذي اتخذته أمه «عصا تتوكأ عليها، توقف عن الوقوف في الطابور الصباحي المدرسي قبل أن يعبر الصف الثاني المتوسط، وعرف كيف يجذب القرش من أماكن مختلفة. وعرف وليد كيف تنمو مدخراته، وابتدأ إقراض الأصدقاء ، وتطورت ثروته المالية بعد زواجه من سلوى التي اقترضت له واشترى عدداً من السيارات ينقل بها المعلمات. ودفعه الثراء للزواج السري من مرام، ودائماً ما تكون حكايا عبده خال محكمة، مبنية بناءً منسجماً مع غيره من البناءات الحكواتية. وما يلاحظه المتلقي على رواية «ترمي بشرر… « هو الكثرة من الحكايات المغذية للحكاية المركزية ، وأرجو أن لا يفهم من كلامي هذا بأن الحكاية تعني البناء الفني التقليدي ، لا بل هي متميزة ببناء مغاير عن المألوف في القص التقليدي. لذا تميزت هذه الرواية بسيرورة متصلة الأجزاء والمحكومة بالنمو غير السياقي، لذا ظلت الرواية خاضعة لزمن غير كرافي، من هنا تنوعت الخلخلة وتحكمت بالرواية التي تمكن عبده خال من تنويع شبكاتها الحكائية وضبط نموها البنائي ، على الرغم من حشد الشخوص وصعوبة التمكن منها وبالآلية المساعدة على متابعة وملاحقة النمو البنائي الذي خطط له عبده خال وأخذه بعيداً وحاول عبده خال التكتم على بعض الشخوص، بحيث كانت في الرواية مثلما السرية، واتضح ذلك في نهاية العمل ، وعلى سبيل المثال إن مرام التي هام بها السيد كثيراً و كانت متميزة بموقع خاص، وجرب طارق فرصته معها ونجح بذلك. هي الزوجة الثانية لوليد والتي لبستها سلوى مع وليد عبر خطة مرسومة من أجل إسقاط مرام وقيادتها الى القصر. وكان «أغيد» الذي التقاه طارق في بيت إبراهيم هو ابن مريم التي ظلت مختفية ولم تفصح عنها تفاصيل الرواية . وكان «أغيد» الأنموذج الواعي للنوع السائد من العلاقات بين أفراد الأسرة التي لم ير أحدهما الآخر لسنوات طويلة جداً. وعلى سبيل المثال لم تتوفر فرصة للأخت مريم من رؤية طارق، كذلك الأم التي تزوجت بعد وفاة فاضل/ والد طارق. ويبدو بأن مريم غائبة ولا وجود لها في الأسرة ، ولم يكشف إبراهيم حكايتها التي تورطت بها عندما زار طارق في يوم ما وأعلن له عن مشكلة أخته مريم التي لم يرها من قبل، لكنه سمع بأن أباه رزق ببنت من زوجته الثانية ، وإطلاق اسمها على إحدى بنات إبراهيم تعبير عن استدعاء حضور رمزي لها وسط البيت.
(- خالي أريد صورة لك.
كان يحمل ألبوما خصصه لأفراد أسرته ، وكل صورة لقريب وضع تحتها معلومة عن نوع القرابة وكلمة أو كلمتين عن انطباعه عن تلك الشخصية … قلبت ألبومه فوجدت مكان صورة أمه صورة للمطربة اللبنانية هيفاء وهبي ، وأسفل منها عبارة «ست الحبايب «)/ص374. وست الحبايب اتخذت مكان أمه لأنه يستحي وضع صورة لها. لكن القراءة ترى بأن ذلك استمرار لغيابها والشطب عليها وبدون تصريح مباشر. ولأن طارق يدرك جيداً ما ينطوي عليه اختيار اسمه لأبن أخيه إبراهيم تعويضاً لقطيعته ومنحه حضوراً رمزياً. ( أصر طارق فاضل على أخيه إبراهيم تغيير اسم ابنه طارق خشية من انتقال قدر عمه إليه).