الملف السوري بين روسيا وتركيا.. مسيرة من الافتراق والالتقاء

د. مثنى العبيدي

في خضم البحث عن حل للازمة السورية، شكل الصراع السوري عامل تأثير مهم في العلاقات بين روسيا وتركيا، إذ كان سبباً في توتر هذهِ العلاقات من جهة، ودافعاً للتقارب فيها من جهة أخرى، وذلك بحسب طبيعة المصالح المتضاربة لكلا الدولتين. بيد أن التحول المهم الذي دفع لطرح ملفات التوافق في الملف السوري على مسار المحادثات والتفاهمات بين روسيا وتركيا جاء بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا والموقف الروسي منه الذي ظهرت فيه روسيا بموقف إيجابي من النظام التركي القائم وعلى أثره استأنف الطرفان علاقاتهما ودخلت هذه العلاقات مرحلة التحسن من جديد.
وإذا أردنا التركيز على تطورات الملف السوري في مسيرة العلاقات الروسية – التركية يقتضي الأمر معرفة أهمية الملف السوري بالنسبة لهاتين الدولتين ومعرفة اهم قضايا الاختلاف والاتفاق بينهما.
تأتي أهمية الحرب في سوريا بالنسبة لروسيا من أهمية المصالح الروسية في سوريا المتمثلة بالمصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والثقافية. وبخلاف إيران التي لها مصالحها الخاصة في المنطقة، تعتبر سوريا موطئ القدم الوحيد لروسيا في منطقة الشرق الأوسط وهو ما قد يمكنها من التأثير على التطورات في العالم العربي والبحر الأبيض المتوسط، ويرجع ذلك جزئيا إلى قواعدها العسكرية في سوريا. وتعتبر سوريا البلد العربي الرئيسي من حيث التعاون التجاري والاقتصادي مع روسيا ومستورد رئيسي للأسلحة الروسية. يمكن لروسيا الاستفادة من نفوذها في سوريا كورقة مساومة في الشؤون الدولية، مثل الحصول على قبول سلبي للأزمة الأوكرانية أو تخفيف العقوبات الاقتصادية الدولية على روسيا.
أما بالنسبة لتركيا فينبع اهتمامها بالملف السوري انطلاقاً من كون سوريا دولة جارة لها وبينهما حدود طويلة، وان اختلال الاستقرار في سوريا لا بد أن تنعكس تداعياته الخطيرة على الداخل التركي وهو ما حصل بالفعل بعد تنامي خطر الجماعات الإرهابية كتنظيم “داعش” وبروز الحركات الكردية السورية المسلحة وسيطرتها على مناطق شاسعة في سوريا. كما أن تركيا هي أكثر الدول التي استقبلت اللاجئين من سوريا وما لذلك من تأثيرات اقتصادية وأمنية عليها، وأن سوريا تمثل ممراً اقتصادياً مهماً لتركيا إلى المنطقة العربية، فضلاً عن أن تركيا لديها سياسة إقليمية تهدف من خلالها إلى بسط نفوذها وتأثيرها في دول المنطقة وذلك بالتركيز على الأدوات السياسية والاقتصادية والثقافية والقيمية.
تضمن الملف السوري العديد من القضايا التي شكلت محل اختلاف بين تركيا وروسيا كان بعضها عامل توتر في العلاقات الثنائية بين الدولتين إلى حد وقت قريب ولا زالت محل اختلاف بينهما بالرغم من تحسن هذهِ العلاقات في الوقت الراهن. وتشمل نقاط الخلاف الرئيسية القيادة السورية، والمعارضة، والمجموعات الكردية، والدور الأمريكي في الصراع.
قدمت روسيا الدعم المطلق سياسياً وعسكرياً واقتصادياً لنظام الأسد في سوريا. وفى المقابل، كان الموقف التركي ينادى بضرورة إسقاط نظام الأسد وإقامة نظام ديمقراطي ودعم القوى والحركات السورية المعارضة بجناحيها السياسي والعسكري. ترى روسيا أن كافة الجماعات السورية المسلحة المعارضة لنظام الأسد هي جماعات إرهابية واستمرت بهذهِ الرؤية إلى وقت ليس ببعيد وطبقتها باستهدافها عسكرياً لمختلف الجماعات السورية المسلحة. ولكن في الوقت الراهن وباستثناء “داعش” وجبهة “فتح الشام”، اعترفت روسيا بالفصائل المسلحة وتفاوضت معها، بما في ذلك وحدات حماية الشعب. وفي الوقت نفسه، تعتبر تركيا تنظيم الدولة الإسلامية، وجبهة فتح الشام، ووحدات حماية الشعب، والميليشيات التي تقاتل مع الأسد منظمات إرهابية.
دعمت روسيا حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا الذي افتتح مكتباً سياسياً له في شهر فبراير 2016 في موسكو وقدمت الدعم العسكري لهم مستخدمة الأمر كورقة ضغط أمام تركيا في مرحلة توتر العلاقات معها وورقة تفاوض عند استئناف العلاقات الثنائية، بينما ترى تركيا في ذلك خطراً امنياً لا يمكن تركه وان حصول الأكراد في سوريا على كيان مستقل يعني مطالبة الأكراد في تركيا بالفيدرالية أو الاستقلال.
استنكرت روسيا الهجوم الصاروخي الأميركي في أبريل الماضي ورأت فيه خرقاً للقانون الدولي وانتهاكاً لسيادة سوريا كان العكس منه في الموقف التركي المؤيد لها الذي رأى فيها رد فعل إيجابي على جرائم نظام الأسد، هذا الأمر يشكل آخر ما استجد من اختلاف حول الملف السوري بين روسيا وتركيا وقد يكون سبباً في توسيع شق الاختلاف بينها نظرا لأنه سيحد من مساحة التحرك الروسي فيها.
لم يمنع وجود قضايا مختلف عليها في الملف السوري من أن يتم التقاء روسيا وتركيا حول نقاط ضمن هذا الملف، وهذا الالتقاء مدفوعاً بإدراك روسيا بأهمية دور تركيا في إيجاد حل للازمة السورية يحقق مصالحها. كما تسعى روسيا إلى كسب تركيا إلى جانبها في الشرق الأوسط لإدراكها أهمية التأثير التركي على الجماعات والفصائل المسلحة الفاعلة في الساحة السورية، وبالمقابل جاء التوجه التركي موافقاً في تسوية الخلافات مع روسيا. وتتضمن نقاط الالتقاء بين روسيا وتركيا ملف مكافحة الإرهاب، الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، ووضع نهاية للحرب في سوريا.
بدأ التنسيق الروسي التركي ضد تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة فتح الشام – وذلك على الرغم من اهتمام روسيا الباهت بذلك – بدأ بضربات جوية تستهدف مواقع الدولة الإسلامية في سوريا، في حين دعمت تركيا الجيش السوري في عملية درع الفرات ضد الدولة الإسلامية، ووحدات حماية الشعب.
كما تتفق كلا روسيا وتركيا على وحدة الأراضي السورية وعدم تقسيمها وضمان عدم نشوء كيان مستقل للأكراد في سوريا، كما اتفقتا الدولتين على دعم الجماعات الكردية المسلحة في سوريا دعما محدودا، وفعلاً بدأت روسيا بالتقليل من الاهتمام بها بعد استئناف العلاقات مع تركيا وتحسنها.
تسعى كلا من روسيا وتركيا إلى البحث عن مسارات في الحرب تتناسب مع مصالحهم الخاصة. ومن ناحية أخرى، أصبحت روسيا الطرف الأكثر تأثيراً في الساحة السورية وتبتغي ضمان مصالحها العسكرية وتواجدها في المنطقة واستمرار فعاليتها في الملف السوري واستثماره في قضايا المنطقة، بيمنا ترى تركيا أن حل الأزمة يتطلب إقامة نظام ديمقراطي في سوريا يكون لحلفائها دور مؤثر فيه وعدم قيام فيدرالية في سوريا للأكراد من الممكن أن ينعكس على الوضع الداخلي التركي وعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم والقضاء على الإرهاب.
خلاصة القول أن دوافع الالتقاء بين روسيا وتركيا غير كافية لتحصين تحسن العلاقات الروسية – التركية، خاصة وأن دور الولايات المتحدة الجديد في ظل إدارة ترامب لم يتحدد بعد. كما أن القضايا التي تتفق عليها الدولتان في الملف السوري لم تكن وحدها سبب تحسن هذه العلاقات وإنما كان للحاجة الاقتصادية المتبادلة والاعتبارات السياسية بينها تأثيراً كبيراً في إعادة العلاقات بينها. ويبقى الملف السوري متغيراً مؤثراً في العلاقات بين تركيا وروسيا.

* باحث سياسي وأستاذ في قسم العلوم السياسية بجامعة تكريت.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة