جابر محمد جابر يستدعي قصيدة الأثر

علي حسن الفواز

القصيدة أثرٌ، وكتابتها لعبة ومغامرة لتدوين ذلك الأثر، وحين يدرك الشاعر خطورة هذا التماثل ينحاز الى سرائر اللغة بوصفها البيت الهيدغري، أو المجال التشكيلي لتكوين ملامح القصيدة، وللإبانة عن وجودها، وهويتها وعن دالتها في التعبير عن شخصنتها..
جابر محمد جابر شاعر مغامر، وباحث عن القصيدة التي يساكنها بالتدوين، فهي مَجازه، وزاوية إنصاته، مثلما هي أفق رؤيته للعالم، وبقطع النظر عن انشغالاته في صياغة موقف ما، له رمزية سياسية أو تاريخية، أو حتى نفسية، إلّا نزوعه للقصيدة الشخصية، أو قصيدة الأثر، كان هو الأكثر تعبيرا عن وعيه القلق، وعن أسئلته اللجوجة..
يكتب جابر محمد جابر هذه القصيدة بوصفها نص الخيبة، أو نص الافصاح عن واقعه، والتهجيس برؤيته، لكنه يجعلها- أيضا- ممارسة في في تقصّي ما تتركه الحرب، الهزيمة، اللوعة، الخيانة، العزلة من أثرٍ، له مدوناته الفادحة، والتي كثيرا ما تقتحم القصيدة، أو تتسلل الى مجاله الشخصي لتترك أسئلتها، بصماتها، خطابها..
هو يستعين بتقانة(القرين) للمجاهرة بمحنة رؤيته، وبعلاقته المضطربة مع الوجود، هذا القرين يشبههه، أو ربما هو(أناه) التي تتقنّع بتوريات لغوية- استعارية ومجازية- لكي تُتيح له مساحة أخرى للتعبير الفاضح عن ماهو مُضمر تحت أقنعة اللغة، أو تحت أقنعة الأنا وهي تراقب ما يتبدى من يوميات ومفارقات الحزن والجوع والانكسار والقسوة..
صديقي بحار جائع ،
جمع إحزانه وباعها،
على أرصفة الموانئ، ابتاع بثمنها
شارعا، اسماه، الشارع الجائع..
***
اصطحب نومه إلى بار سعد،
استسلم لسكرة محترمة،
كانت يداه نافذتين / وعيناه …… ملطختين بالحروب،
هو …… يحتفظ بأرشيف أحلامه،
أهديته قدمي،
يتجول بها في حدائق القسوة..
انحياز الشاعر الى قصيدة النثر، وتمثّله لتقانتها التعبيرية تكشفُ عن طبيعة هواجسه الحكائية، وعن علاقة هذه الهواجس بصياغة الجملة الشعرية المناظرة للمشهد الشعري، فأغلب قصائد الشاعر لا تخلو من هذه التشكّلات، ولاعن رغبته في سردنة تخيلاته الشعرية، فهو يقترح للقارئ قصيدة تلوينات، تقوم على فاعلية التوصيف، مثلما تقوم على فاعلية المفارقة، وعلى ازدحام الصور بوصفها دالات تعبيرية للمشاهدة ولما تضمره، حيث تتجاور فيها الأفكار مع تأويلاتها، وحيث تبدو رؤيا الشاعر وكأنها محاولة لاختراق عتمة الوجود من جانب، ولمواجهة العالم عبر تقانات السخرية والمرارة والمفارقة من جانب آخر، فعبارة(دوائر مربعة) تكفي للتعبير عن هذه التقانات، فهي سيمياء حادة، تكشف عبر مَضمرها عن هاجس ملتاع، وعن وعي تصويري بهذه المفارقة التعبيرية..
أنا جالس في زاويتي وحيد
كالميت في قبره
لم أنم منذ عام،
لم أبك منذ لحظة
شيّب حزني..
تملك تقانة المفارقة حضورا واضحا وفاعلا في شعرية جابر محمد جابر، فهي تتمثل ارهاصات وعيه لما يجري حوله من حروب وخرابات، مثلما تتمثل هوسه بوظائفية الاستعارات الضدية، تلك التي يستعملها في تورية رؤيته، وموقفه، وسخريته، فضلا عن استعماله لوظائفية الرمز، بوصف هذا الرمز مجالا تعبيريا يُشير الى خصوصية الشاعر في التعاطي مع قاموسه، ومع قدرته على تأويل ماهو غامض، ومُلتبّس، والذي لايملك إزاءه إلّا الرغبة بالتمرد والتجاوز والبحث عن ماهو ضدّي، حدّ أنّ قصائده تبدو أكثر انغمارا في هذه التقانة الكتابية، وللتماهي مع لعبته المناورة، واستدعاء ما يمكن أنْ يراه من الوجود عبر اللغة، حيث مُركّبها التصويري، وحيث مفارقتها التعبيرية، تلك التي تستدعي الوضوح مقابل الغموض، ويستدعي الماء مقابل اليباس والجفاف، وتستدعي الموت مقابل الحياة، وتستدعي الأسى والفقد مقابل الحضور والأمل..
أتفحص الوجوه
أتلمس بعينيّ الاقنعة
وأقرأ الابتسامة الكاذبة..
جابر محمد جابر يعرف أسرار اللعبة الشعرية، فهو يملك خبرتها، وحتى تمثلاتها التي اقترنت بظاهرة الأجيال الشعرية، لكنه حاول أنْ ينأى بنفسه عن هذا النزق، فاستدرك ما لا يُدرك عبر دأبه في اصطناع مزاجه الشعري، وقاموسه، وعبر توضيح ما يمكن الإفصاح عن أثره، من خلال سردنة القصيدة، أو تعشيقها بالحكاية أو حتى بالقصة، وكأنها يُفصح عن تململ القاص والروائي، أو صانع الأثر تحت مخاضاته الشعرية…

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة