الدكتاتور فنّاناً

كتاب “الصباح الجديد” عن تأريخ لم يطوَ(الدكتاتور فنانا) لرياض رمزي
الحلقة 5
هل يمكنك أن تقرأ طوال خمسين سنة، وتعبّ مئات الروايات والمخطوطات ودواوين الشعر وكتب علم الاجتماع والدراسات المستقبلية، وأن تصبر على إكمال قراءة مجلد موبي ديك العقد والمتشابك، وتفكك خطب صدام حسين ومؤلفات اسحاق دويتشر وبرزان التكريتي والمركيز دي ساد ونيتشة وأمهات كتب التراث، بثلاث لغات حية، العربية والإنكيزية والروسية ثم تؤلف كتابا واحدا لا تتجاوز صفحاته على المائة والأربعين صفحة عن شخصية صدام حسين هي خلاصة كل ما قرأتَ وتأملتَ، إذ يتدحرج الفنان الدكتاتور، أو الدكتاتور الذي تفنن في تدمير كل من ألقاه حظه العاثر في طريقه، وتجبر على الله ومخلوقاته، وانتهى مثل هذه الأيام، قبل أربعة عشر عاما، الى خارج المعادلة بعد أن تسببت حماقاته في كل ما حل بالعراق من كوارث.
يقول الكاتب رياض رمزي في مقدمة كتابه (الدكتاتور فنانا)
بالرغم من أن العراقيين، على عكس الشعوب الأخرى، لا يعدون ظاهرة العنف حالة طارئة في تأريخهم، فأنهم مع اطراد الكوارث المفجعة كثيراً ما يتساءلون : أي لعنة خيمت عليهم ؟ وأي جريمة اقترفوها كي تسير الحياة السياسية لديهم يدا بيد مع القتل؟ما هو سبب هذه التراجيديا التي بدأت تقود الى اعتقاد سطحي لدى البعض يتمثل في تسمية مبسطة يطلق عليها عادة “سوء الطالع ” هل هو التأريخ الطويل للقتل السياسي أم أرواح شريرة سكنت هذه الأرض؟
تدمير التراث ضمن خطة تدمير الذائقة وإفراغ الذاكرة من حساسياتها الجدلية.. هوس الطاغية بإدخال الممنوعات في كل تفصيلات حياة العراقيين
كثيراً ما كان نابليون يلتقي تالما احد اعظم ممثلي عصره ، نصائح بشأن ادواره المسرحية. قال له عن شخصية نيرون “يجب ان تقلل من حركاتك التعبيرية فالرجال على شاكلة نيرون ليسوا على هذه الدرجة من الامتداد. انهم متحفظون” . وعن ادائه دور القيصر ، قال له نابليون ” انت تتعب يدي القيصر كثيرا. الامبراطور ليس سخيا في حركاته الى حد التبذير. الاشارات لديه اوامره قد تكلف الاخرين حياتهم. انها نوع من الادخار لديهم. اما صوت الإمبراطور فهادئ جدا لديك ، يتضمن معنى مراوغا”. تفرض مهنة الدكتاتور على صاحبها الظهور المتواصل. ويصبح الخروج الى الخارج الية عمل ضرورية . عندما يختفي يوما واحدا يصاب عمل الدولة بالشلل وعندما لا يجد مناسبة للخروج فأن لقاء بممثله من الدرجة الثانية يصبح ضرورة تتطلبها المهنة لا يصدق الناس صدور قانون ان لم يكن موقعا باسمه.
ما هو التمثيل؟ ان تستبدل شخصيتك بأخرى لكنك تستبقى بحوزتك جزءا من ملامح واقعك الفعلي. الممثلون يعيشون ادوارهم الجديدة حتى لو اقتضاهم الامر تغيير ثوبهم نهائيا والتخلي عن امزجتهم وعاداتهم السابقة فيصبح لديهم موقفا يستخف بالعالم الواقعي ، ويمتدح المتخيل . الممثل الملهم هو اولا من لا يستنسخ الدور ، بل يوهم نفسه بأنه لم يكن غير ذلك الصوت ، الحركات ، الايماءات ، النظرات ، ثانيا لا يلتزم بأيديولوجيا دخيلة ، وعابرة تخل بعنصر السيناريو الجوهري: الصراع. ممثل كهذا بحاجة الى فعل استثنائي يبرز موهبته فيه ، كالحرب وثالثا ، يصبح الممثل عظيما ، ليس لان الجمهور يؤمن بما يقوله ، بل لأن (الجمهور) على يقين بأنه سيمضي بدوره حتى النهاية. عندما يتم استيعاب المشهد الجديد ، يفاجأ الجمهور بمشهد اخر اكثر جدة يبقي المتفرج مشدودا يترقب نوعية المشهد المقبل اين سيضرب؟ يصبح هزال الارادة السمة الغالبة على الجمهور إزاء عناد الممثل. انه اقرب الى الحيرة من كثرة الاحداث التي يحفل بها هذا العرض الخطير الشبيه بحفلة سيرك استأثر بها اسد يقف بلبدته المنفوشة على كتفيه امام جمهور كتم انفاسه هلعا وانحطت قواه عندما ادرك ان الاسد مازال ماضيا في ارتجال فقرات عرضه المسرحي المعنون “اين سيضرب؟”.
كان يمهد لحروبه بالطريقة نفسها التي يهيئ مخرج مسرحي الاجواء لمسرحيته المقبلة.
العرض التمثيلي تجربة يتغير فيه الممثل والمتفرج. الممثل يعد اداءه انجازا يحاول الحفاظ عليه وتجاوزه. يتحول المتفرج الى ما يشبه قارئ كتب السير يتطلع الى صور بطل السيرة بعد كل خبر شائق او حدث عنيف. انه يفقد شيئا ويحوز شيئا آخر لينتهي به الامر الى شخصية جديدة تتقبل الحبكات التي طرحها الممثل ، ويرفض العقل عند اية بادرة لتحدي هذه الحبكات التي تعتمد على الاستهانة بالمنطق (وزير الصحة يقتل لانه يستورد ادوية لقتل من هم بعهدته من المرضى. قائد عسكري يعدم لأنه يعد خططا بارعة لأنزال الهزيمة بجيشه. شاعر يعدم بتهمة خيانة الوطن الذي كتب له نشيده الوطني. بلد امده بقروض يكافأ عليها باحتلاله. التنازل عن الارض لمصلحة بلد حاربه ثمانية سنين لاسترداد الارض نفسها التي مات من اجل استرجاعها مئات الالاف). هذا هو الممثل القادر على خلق عقد تجعل المتفرج يفقد اتزانه ويقر بتعثر احواله الذهنية عن اللحاق بما يحدث امامه من حبكات. يخرج النظارة وهم مقتنعون ليس بصحة ما فعله قبالتهم بل بما هو قادر على فعله في المستقبل عندما نقول : هذا شخص بمقدوره القتل فأنت لا تقصد عدد قتلاه ، بل من هم ضحاياه في المستقبل واين سيضرب؟
ما هي مواصفات هذا الممثل؟ انه ليس خطيبا مفهوما ولا يمتلك مدى صوتيا واسعا مع كل ما تثيره هذه الملكة من ابداء اكتراث لردود افعال من يقعون في مجال صوته ، بحيث يصبح على مقربة شديدة منهم ، يسعد بسعادتهم على غرار هتلر او موسوليني. فهو لا يتمتع بقدرة على تحريك الجسم الذي يترك عادة في النفس اثرا كثيرا ما يجعله مثل شارب الخمر يشارك جمهوره في احتساء كؤوس من الاعجاب المتبادل فيصبح اكثر ميلا الى استخدام عواطفه التي تحتدم وتتجدد فيتخلى بطله بعض الوقت عن مهنة التضحية بالأخرين لمصلحة احلام بطله. انه لايقود فرقة موسيقية يتأثر بأدائها بل يرتجل الحانا في ضرب من تعال بارد لبطل يعيش منفراد مع احلامه ثم يوزعها بعد الارتجال على اعضاء فرقته. لذا تجده يلجأ الى الملابس ، النظرات ، الاشارات ، مسك القلم وضربه على الطاولة لانه لا يهتم بمعرفة مزاج الجمهور بل اداراك مقدار الخوف الذي يعتمل في قلبه. عندما يرى القلب فارغا يقول لهم مايريد قوله عن طريق الصورة (تعليق الجثث في الساحات العامة ، عبور نهر دجلة سباحة…) بعد انجاز اعماله المسرحية الحافلة بالتناقضات والعامرة بالقسوة ، يكتشف النظارة الصورة الفعلية للرجل الذي يقف قبالتهم. انهم لا يعودون يتكلمون عليه الا بكلمات متبوعة بنعوت تشريفية ، وبصيغ الضمير الغائب. اما هو فينتظر ريثما ينتهي اعداؤه من اكمال رسم صورته ، التي استلهموها من اعماله الاستعراضية فيرى ان الشعور بعقم مقاومته كانت السمة الغالبة على شتى اشكاله التي رسمها اعداؤه. كان يعجب من اشكاله التي نسخها الجمهور متأثرين بجلال افعاله فيندفع في خلق مأزق ليؤكد صورته كبطل.
بعد ان يهيمن على عقول جمهوره ، يسيطر على اجسادهم ويقودهم كنيام بجعلهم يراقبون اجسادهم بأنفسهم فيما يسميه “الترشيق”. اي عدم تجاوز وزنه الحدود المسموح بها قانونا. اذ يضع كل فرد جسده تحت السيطرة نيابة عنه. اصدر امرا قضى بمنع خروج الافراد بالبيجاما (وهي ممارسة متبعة لا تستدعي الاستهجان) والابتعاد عن بيوتهم كيلومترين. عندما يبدأ الفرد باحتساب مدى ابتعاده عن البيت سيحرم من اي تقاعس او جنوح مفيد للتوازن، وهما خاصيتان رئيستان تقيانه شر الجنون. يصاب الفرد بالانهاك من شدة الانتباه لثقل وجوده. ينذر لشخص كهذا ، ان يسترسل في التأمل او في قراءة جريدة في مكان عام . انه يوقف القراءة مرارا كي يراقب المارة.
لا يغامر ممثل كهذا بسحر الجمهور لعدم وجود تجربة دينية في طفولته يستغلها لإثارة الحمية لدى أنصاره. انه بارد الدم لا يحاول تحسين ظروف الاستثارة لدى جمهوره ، ولعدم وجود قابليات لديه كخطيب جماهيري اختار ان يكون بطلا لمسلسلات تلفزيونية من خلال الصورة، والحبكة ،والممثلين الثانويين، الذين يتفقون مع دوره الرئيسي . ان واحدة من اهم خطبه التي قال فيها انه سيحرق إسرائيل تمت في تظاهرة تلفزيونية صممت بعناية لاظهار عظمته وهو يضرب كان يرى موجات الدم وهي تتصاعد بعناية لإظهار عظمته وهو يضرب، كان يرى موجات الدم وهي تتصاعد الى وجوه مستمعيه من دون ان يبدو على وجهه غير الشعور بالابتهاج لرؤية حركة سباته الضخمة المتوعدة قرب مستوى العينين وهو يجلس جلسة قائد تتري يتكلم بلهجة تحفل بالمصطلحات الشعبية ذات الواقع الشعبي بوميض البرق الذي يشي بقرب قدوم العاصفة.
2- الرسائل الحجرية:
بعد اندلاع الحرب عام 1980 مباشرة زال الاهتمام بالتراث من المفكرة، سياسة البلد، فقد اغلق المركز الإقليمي عام 1993 وتقلصت الى مدى كبير موازنة الهيئة العاملة للاثار والتراث. عدد كبير من موظفي الهيئة ارسلوا الى جبهات القتال وعدد كبير اخر غادر البلاد بحثا عن فرص عمل في الخارج. واقتصرت اعمال الترميم على إصلاحات عاجلة لبعض المواقع الاثرية المهمة، وحتى في مثل هذه الحالات فقد فرضت القيود المالية، ونقص اليد العاملة على الهيئة تجاهل قواعد العمل السليمة، فعندما حصل شرخ في السقف المعقود في اعلى الايوان الغربي للمدرسة المستنصرية التي ظهرت في بغداد في القرن الثالث عشر ازيل السقف المفقود كله ووضعت محله طبقة من الكونكريت المسلح.
وبينما كانت المعارك تدور في الجبهة استولت على حكام بغداد هستيريا بناء مشارع ضخمة، فقد تم الاستيلاء على حدائق عامة وساحات ومدارس وملاعب رياضية ومواقع خاصة من اجل بناء قصور للعائلة الحاكمة والمسؤولين الكبار لحزب البعث وتحولت هذه كلها الى مناطق مغلقة.
عام 1995 هدمت بيوت تقليدية ترجع الى القرنين التاسع عشر والعشرين في محلة الشواكة في الضفة الغربية لنهر دجلة، ووضع مكانها شريط من العمارات الكونكريتية ارتفاعها 15 طابقا مستنسخة من تجرية أوروبا خمسينيات القرن الماضي، وهي تعد اليوم كارثة اجتماعية، تلك الشقق الكونكريتية غير متجانسة تماما مع ارتفاع البنايات في مدينة بغداد، ولا علاقة لها بحياة طراز شاغليها. في شارع الرشيد، وهو المركز التجاري في المدينة ازيلت مجموعة من الدكاكين القديمة التي ترجع الى الاربعينيات من اجل اعداد مكان لنصب بشع لاحد أعضاء حزب البعث الذين قتلوا في هذا المكان عام 1959م في اثناء القيام بعملية إرهابية استهدفت رئيس الوزراء في ذلك الحين.
هكذا ففي الوقت الذي هدم 2477 منزلا تراثيا في بغداد بني اكثر من 100 قصر غالبيتها في بغداد على يد مواطن لا يحمل ذكريات عطرة من عاصمة بلاده.
تتربع هذه القصور على مساحات شاسعة محاطة بحدائق موشحة بالاشجار، والزهور ونافورات المياه، ومسيجه ببحيرات اصطناعية تجر اليها المياه من الأنهار بمضخات عملاقة، تذكر بقصور ملوك الطوائف . تتميز القصور بنزوع اختيالي يرى منن كثرة العناصر الزخرفية الهندسية الناتئة والضامرة التي تتلاعب بالظلال والاضواء ، والتي تحاصر الفراغ كي تعطي الزائر الشعور ليس بعظمة الإنجاز بل بقدرات المنجز مدارج حلزونية تفضي الى الطبقات العلوية، ابهاء فسيحة بنيت لخلق تأثيرات حسية مؤانية كي يراود المرء إحساس ينتهي به الى استرجاع زمن السلاطين الجالسين في صدر البهو على منبر مطعم بالذهب والعاج مرة واحدة في السنة لاتخاذ قرار مهم.
بعد كل عملية عسكرية قامت بها القوات التحالف وينجم عنها تخريب كامل او جزئي لتلك القصور تتجه نحو جهود الدولة نحو اعمارها على ان يجري ذلك خلال زمن قياسي يجاري ملحمة القصور نفسها.
اهم هذه القصور قصر الفاو في بغداد. مدخله ضخم يبلغ ارتفاعه 18 مترا ينفتح على بهو كبير تعلوه قبة تتدلى منها تراثيات عملاقة ، تنافس ماهو موجود في ضرائح الاولياء والقديسين لا بل تتجاوزه. تبنى القصور بالمواد النفيسة فهنالك احتفالية بالذهب و الرخام الخالص: اثاث مطعم بالذهب، ستائر مخيطة بالذهب، ارضيات مفروشة بالرخام النفيس. وبدلا من اسماء الله الحسنى نقشت تسعة وتسعون صفة من صفاته على جدران القصر. كثيرا ما تتميز القصور بمعلمة مصممة كي تغرس ملحمته في الذاكرة: فأمام قصر تكريت، تمثال لتنين مطعون برمح على شكل الله واكبر. اما قصر الفاو فأنه يتألف من مداميك ضخمة على شكل ايدي ترفع السقوف وهي كناية عن قوة الارادة التي طلى بها كل زوايا قصوره. هناك في كل قصر مقتبسات من اشعار تشهد على ارادته اختيرت بعناية وليست منتقاة املاها هوى عابر. (محاضرة فريد حنا عقراوي في غاليري الكوفة في 2/1/2004 م ).
يشهد تاريخ الطغاة والمتسلطين إنما ما يقومون به من بناء صروح ضخمة ومميزة، لا يأتي من رغبة في السيطرة على الحيز فحسب انما من الرغبة في السيطرة على الاحداث على الأرض. ويمكن من خلاله المباني استقراء شكل ارادتهم انهم بواسطتها يعيدون تشكيل العالم .
عندما ادركت الهزائم هتلر، كان يعود الى المباني التي تخيلها كي يقنع نفسه ان ارادته ليست على ذلك القدر من الشح. وكي لا يحدث الخراب اي اثر على نفسه عند النظر الى بلاده التي تحولت عماراتها الى مايشبه نثارا من الاطباق المحطمة. لجأ الى الخيال كي يسري عن نفسه، عسى ان لا يستبد بها اليأس، على غرار امرأة عصف بها الم الهجران فقررت اغلاق الباب والدخول الى غرفها كي تبدأ بارتداء فساتينها القديمة الجميلة درءا للوحشة لاسترجاع ذكرى ايامها الخوالي. كان الخراب يضطره الى اللجوء الى مزاعم فنية من الخيال تقوي شحنة الارادة عنده.
في 20 ابريل/ نيسان 1945م وتحت قصف مدافع الروس المتقدمين نحو مبنى الرايخشتاع، خرج هتلر من المخبأ الكونكريتي المسلح نحو الحديقة كي يحتفل بعيد ميلاده السادس والخمسين. لم يكن راغبا في ذلك. لكي لا يمنعه منظر الخراب من الاستغراق في خياله. ولكن ايفا براون عشيقته وزوجته لاحقا حثته على ذلك.
عندما خرج الفوهرر وجد امامه احتفالا متواضعا يحرسه جنود من الاطفال والمراهقين الذين ما زالوا يأمنون بعظمته، جاءوا توا يدافعون عن عاصمة بلادهم وعن قائدهم الذي ظهر بقبعة غطس رأسه فيها فلم يعد يرى من وجهه سوى عينيه . وكان يرتدي معطفا عسكريا رفعت ياقته، مواريا يده اليسرى وراء ظهره كي يخفي ارتجافه غير المسيطر عليها، مجبرا وجهه على ارتجال ابتسامة اشبه بترميم متأخر ومستعجل مظهر ايل الى التداعي، مربتا كتف طفل وملامسا وجه اخر.
لم يستمر الاحتفال الا بضع دقائق عاد الفوهرر بعدها الى مخبأه لممارسة تسليته الوحيدة: الوقوف طويلا قبالة مجسم لبلدة لينز التي أراد لها ان تكون عاصمة اوروبا الثقافية. كان نصبا مشيدا على منصة ضخمة تحوطها مؤثرات ضوئية تبين منظرها في مختلف اوقات النهار وفي الليالي المقمرة والمظلمة كان هتلر (الروس على مبعدة اميال من مخبأه) مشغولا بتوجيه الملاحظات : يجب اطالة برج المدينة ويجب ان لا يحجب البرج ضوء الكاتدرائية القريبة، يجب ان يشاد البرج بعلو يلامس اطلالة الصباح الاولى ويودع اخر اشعاعات الغروب. دعوا قرع اجراس الكاتدرائية يتزامن مع عزف السمفونية الرابعة لبروكنر. هل يتفق هذا مع الحقه من دمار ببلاده وبمدن اخرى؟.
لم يكن السيد الرئيس يفضل تصاميم معمارية معينة ولكنه كان يتمتع بحس داخلي اتاح له ادراك اهمية البناء وذلك لغرضين: تمجيد مقامه وارهاب اعدائه. فمسجد ام المعارك الهائل الحجم الذي يحتوي على اكبر صحن في العالم كان له هدف واحد: اقناع المتشككين في صحة انتصاراته في معاركه وارهاب القاتلين بعكس ذلك انه يوظف البناء لكي ينسى المرارة التي تحييها فيه ذكريات هزيمته في المعركة التي سمي الجامع باسمها، فيصبح الجامع لا المعركة مصدرا لذكرياته اذ ما ان يزاد البناء ضخامة ويصبح الاعظم حتى تختفي الكارثة ويتم الاستبدال نسيان الواقع من طريق تشييد واقع اعظم،فما ان يذكر اسم ام المعارك حتى يشرع في التحرك صاعدا صوب سطح الذهن ،ليس سجل ذكريات المعركة . انما منظر الجامع الكبير انه يقتل أعداءه عن طريق البناء بطريقة استعارية تحاكي طقوس صيادي الوحوش عندما يحفرون حفرة يغطونها بأشواك كثيفة ويغرزون فيها الرماح كناية عن انتصار رمزي على الاعداء البنايات طقوس رمزي وشفرات موجه الى الخارج ايضا انها روايات من اسمنت وحديد يقرأها البطل لنفسه ثم يوجهها رسائل الى الأخرين عندما تتفيأ بالظل الذي يوفره الجامع العظيم المترامي الأطراف ستلفي الامر مختلفا عما يشاع عن هزيمته اذ يعز عليك ان تصدق امرا يجافي العقل كهزيمة رجل كهذا ولا تعود قادرا على الشك في انتصاراته فتصرخ قائلا “انت الذي هناك افلا تدرك ان لا وجه للطعن في صحة انتصار باني هذا الصرح”.
جامع ام المعارك بناء حافل بالرموز فالمنارات الشاهقات الرفيعة الشبيهة براجمات الصواريخ يبلغ ارتفاعها 34 مترا بعدد ايام القصف في ام المعارك يشبه تصميم الجامع خريطة الدول العربية. وتشير المنارات الاربع في القوس الداخلية الى شهر ولادته ويدل ارتفاعها البالغ 73 مترا الى سنة ولادته.
اما الفسقيات البالغ عددها82 فتشير الى يوم ميلاده. هذا هو اذا عنوان الجامع الحقيقي 28/4/1937 .
* هامش:بعد أربعة عقود من المحنة حالة البيئة والتراث المعماري في العراق.عصام غيدان وناياب الدباغ ترجمة: كامل شياع. تقرير منشور في الكتاب الدوري “تراث في الخواطر”2004\2005 الصادر عن منظمة اليونسكو.)

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة